تحليلات من سوق الجمعة
«الإنسان عدوُّ ما يجهل»، وقد يرىٰ الواحد أمراً يهوله عجباً لغرابته وحداثته، فيكون أسرع إلىٰ إنكاره هرباً من تصديقه فتثبتَ عليه تهمة الجهالة إن ظهر سخفها. وكذا المرء في كلِّ ناحيةٍ من حياته في حكمه علىٰ المسائل، يميل إلىٰ تصديق الأقرب إلىٰ المنطق، دون إعطاء اعتبارٍ إلىٰ حقيقة الشيء من عدمه، ورُبَّما حمله ذاك التَّصديق علىٰ معاداة أيِّ حديثٍ، وإنكار أي مسألةٍ علىٰ الجملة. فحين مثلاً ظهرت الكهرباء في بلادنا سارع البعض إلىٰ وصمها بعمل الجان، وحين ظهرت آلة الطِّباعة، والسَّيَّارة وقبلها القطار، وكذا القُمرة¹، ومن ثمَّ الرَّاد، فالرَّائي²، فالانترنت، سارع الجميع حينها من بعض مشايخ والخواص والعوام إلىٰ إنكارها، بل وجعلها محرَّمةً= وما ذاك إلَّا أن استسهلوا الحكم عليها بالنَّفي، لا أن يتكلَّفوا عناء البحث والرَّويَّة، فيحكموا عليها وفق مقتضىٰ الحاجة، وبعد الإلمام بكل نواحيها؛ فيرون محاسنها ومساويها، وفضائلها وشرورها، ثمَّ يستقرُّون علىٰ المذهب الملائم لحاجة النَّاس، ويُبيِّنوا كيف تحل وكيف تُحرَّم. فلا تعجب إن ظهر كذٰلك من يُحرِّم الذَّكاء الإصطناعي، ومن تحريم الاستنساخ علىٰ الجملة، وغيرها من التَّطوُّرات التُّكنلوجيَّة المُستقبليَّة.
يُقاس هٰذا كلَّه علىٰ كثيرٍ من مسائل الحياة، فترىٰ العامِّي أسرعَ إلىٰ إنكار أي حكمٍ لغرابته عليه، ولأنَّه ما تعمَّق في بحثه، ولا تروَّىٰ فيه، بل قضىٰ عمره بعيداً عن مسائل الفقه بحجَّة أنَّ تعلَّمه ليس واجباً عليه. ولو ثبت المرء علىٰ قول الإمام الشَّافعي رحمه الله حين قال: «من زاد علمه قلَّ إنكاره»؛ لكان أهدىٰ له طريقاً، وأدوم له عقلاً وفهماً. فمن زاد عنده من العلم والمعرفة أكيالاً، كان أسرع النَّاس إلىٰ تفهُّم اختلاف طبائع النَّاس، وأعلمهم بتباين نفوسهم وآرائهم، وأنَّ لكلِّ قومٍ ولكلِّ دولةٍ وشعبٍ من الخصائص والميزات ما لا تكون عند غيرهم، فلا يرىٰ المرء مسألةً تُعارض عقله لأوِّل مرَّةٍ فيُنكرها، أو لأنَّه اعتاد غيرها وجهل هٰذه فيضرب بها عرض الحائط، ويتَّهم المخالف له بالجهالة والغباء، ومن ثم يكتشف بعد حينٍ أنَّها موجودةٌ لا تعارض العقل والأفهام، وأن الاختلاف فيها سائغٌ. من ذٰلك حين ترىٰ بعض الأتراك وقد انغلقوا علىٰ أنفسهم في دولتهم هاهنا، وهم علىٰ مذهب أبي حنيفة، فيحن يقدم عليهم العربي وهو في الغالب إمَّا شافعي أو حنبلي أو مالكي، فيرون اختلافاً في بعض السُّنن وهيئات الصَّلاة فينكرون عليه ذٰلك، ويتَّهمونه بعدم فقهه، وبأنَّه صلاته باطلة ونحو ذلك من الأمور.
وإنَّ هناك أمراً أشدُّ علىٰ نفسي ممَّن اعتاد مسألة فهاله غيرها، أو من جهل واحدةً فأنكرها؛ ذاك الأشدُّ هو محاولة تفسير شيءٍ بأسهل مسلكٍ، لا يحتاج معها مؤونة التَّفكُّرِ والتَّحليل، وغالبها تكون في السِّياسة. فما إن يرىٰ المرء حدثاً سياسيَّاً من حالة اغتيالٍ، أو تفجيرٍ، أو انتخاباتٍ، أو معارك دبلوماسيَّة، أو غيرها من ماجريَّات السِّياسة والعمران حتَّىٰ يُسارع إلىٰ وصمها بالمؤامرة، دون بذل أيِّ جهدٍ فيها يصل به إلىٰ معرفة السَّبب، أو حتَّىٰ محاولة معرفته، يكفيه شرف المحاولة علىٰ الأقل. لٰكنَّه انبرىٰ ليحيطها بحائط المؤامرة، ويغبش علىٰ عينيه تحليلاً رُبَّما يكون أقرب إلىٰ الحقيقة. وحين تنتصر مثلاً فيتنام يقول لك الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة تلعب لعبةً، وحين تنتصر طالبان يقولون لك مسرحيَّة أمريكيَّة لتسليم أفغانستان، وحين اقول لهم مرَّت علىٰ حرب غزَّة قرابة ١٠ أشهرٍ ونصف وما استطاعوا إيجاد يحيىٰ السِّنوار أو محمد الضَّيف أو أبو عبيدة؛ فيقولون لك لو أرادت أمريكا لوجدتهم. وحين تقول لهم حماس يقولون لك هي عميلةٌ لليهود والأمريكان. وحين تقول لهم القاعدة؛ يقولون لك هي صناعةٌ أمريكيَّة، وحكَّام العرب قاطبةً لهم خياناتٌ ومصالح شخصيَّة لا ريب؛ فيقولون لك هم يهودٌ أصلهم من يهود الدُّونمة، واقول لهم الشَّريف حسين أخطأ بوثوقه في الإنجليز علىٰ العمياني؛ يقولون لك: هو خائن، ويجعلون الدَّولة العثمانيَّة أقرب إلىٰ الخلافة الرَّاشدة فيُقدِّسون لك سلاطينها! ..إلخ من تلكم الآراء الغريبة الَّتي تدفعني إلىٰ مجافاة النِّقاشات والجدالات العقيمة.
إنَّ هٰذه التَّحليلات المركونة إلىٰ عامل تخفيف المسألة، بجعلها فوق حمل قوَّةٍ غاشمة، ووصم هٰذه القوَّة -أي الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة وغيرها من دول الاستعمار- بالجبَّارة الَّتي لا تُقهر في واقع الأمر أجدها= خيانة، خيانةٌ للحقيقة وللواقع. لا أقول أنِّي أجدُ التَّفسير المنطقي لكلِّ حدثٍ وملمَّةٍ، ولٰكنِّي أقول: لا ريب أن هناك أموراً لها تفاسير أقرب للحقيقة منها إلىٰ التَّخيلات المُستمرَّة زرعتها في عقولنا الأحزاب القوميَّة والماركسيَّة؛ كالبعث والنَّاصريَّة، برمي حمل الفشل والخسارة علىٰ القوىٰ الصُّهيونيَّة والأمريكيَّة والإمبرياليَّة والرأسماليَّة. فحين تقول لهم -أي للبعثيَّة والناصريَّة-: ما سبب النَّكسة، وفشل حرب تشرين، والغلاء، والفشل الاقتصادي، والتَّضخُّم، والفساد، والرشوىٰ.. تكون إجابتهم الموحَّدة: القوىٰ الصهيوأمريكيَّة.
ــــــــــــــــــــــــ
¹: أي الكاميرا، وهي من اختراع ابن الهيثم.
²: أي التِّلفاز، هٰكذا عرَّبها أديبنا علي الطَّنطاوي رحمه الله.
تعليقات
إرسال تعليق