لعلَّك قنطتَ من حال الأُمَّة، فهلَّا أنصتَّ؟
اقترب الجيش من مشارع دمشق، وهاج النَّاس يفرُّون من أرض الشَّام، وصوبهم كان حتفهم؛ فإمَّا ضياعٌ في أرض سيناء، وإمَّا مكوثٌ فمقتلةٌ بيد المغول، والنَّاس بين الأمرَين في أمرَّين! لحىٰ الله الإسلام، هل يفنىٰ علىٰ يد هٰذا الصِّنف من البشر، أولاد عمومة يأجوج ومأجوج! أو رُبَّما كانوا هم يأجوج ومأجوج بذاتهم، فلا يُخيَّل إلىٰ النَّاظر لأفعالهم إلَّا ما ورد عن شدَّتهم وبأسهم! فمن للشَّام إذ تُؤخَذ؟ ومن للعراق إذ أُخِذت؟ وقبل ذاك فارسُ وخرسان! هٰذه دولة بني العبَّاس قد أُبيدت، وما بقي من خلفهم رجلٌ تؤول إليه عهد الخلافة، وهٰذه أرض السَّلاجقة قد صار سلاطينها العظام رُعاةً لخيول التَّتار، وأيَّام خوارزم، ولو ذكرنا خوارزم وما آل إليها بآخر سلاطينهم جلال الدِّين، إذ نُبِذ في جزيرةٍ في قزوين، أو رُبَّما قد صار إلىٰ حتفه فإمَّا دعساً تحت حوافر البغال كالمستعصم بالله العبَّاسي، أو جوعاً وحرماناً! فيا للزَّمان ونوائبه، ويا للدهر ومصائبه، يا للدُّنيا وصروفها، وياللأيَّام وحتوفها.
وقد تسامع النَّاس بأولٰئك الصِّبية من مماليك بني أيوب، وقد تصاعدوا في الرُّتب، وعلوا في المناصب، واستوزروا الخُطب، واستأثروا الملك لأنفسهم دوناً عن أحرار مصر.. ويا لأهل مصر، لو ذهب إليهم الغِرَّ العجمي المخصي لغدا فيهم سلطاناً! زهدوا في ملك رشيدهم فأردوه، وجلبوا عليهم بلحتهم فأرداهم. وعلىٰ ذلك.. ما كان للماليك من البأس بين أنفسهم إذ تقاتلوا علىٰ الملك بعد موت الصَّالح أيوب الَّذي قتلته زوجه شجرة الدُّر، ثم لحقت به إلىٰ دار الآخرة، حتَّىٰ استوفوا حروبهم بعاجلة الهدنة لخطرٍ أعظم يقدم من الشَّرق، ولا يقدم إلَّا وقد أكل الأخضر واليابس، وشرب الحلو والمالح، وأتىٰ علىٰ البنيان فهدَّه، وعلىٰ الصَّرح فهدمه، وصَيِّر الأنهر الرَّائجة أحمراً من دم الأنام، وأسوداً من مراقم قماطرهم.
أهاجك روع الخطوب، وسفر الحوادث الشَّؤوم؟ أم شجَّك الفجع بحال الأمَّة يا قريني؟ أما ترىٰ بلاد المسلمين قد نيط بها من كلِّ جانبٍ، وعلا فُجارها، وازدهرت تجارة فُسِّاقها، ومال ميزان الحقِّ ورجحت كفَّةُ الباطل؟ أما ترىٰ كلَّ هذا؟ أين حال هٰذه المدن الشَّامخة، وأين بغداد يا ابن بغداد؟ وأين حلب يا ابن حلب؟ وأين دمشق يا ابن دمشق؟ وأين سمرقند يا ابن سمرقند؟ وأين مرو يا ابن مرو؟ وأين بخارىٰ يا ابن بخارىٰ؟ وأين أصفهان يا ابن أصفهان؟ وأين قونيا يا ابن قونيا؟ والآن هل تقول أين القاهرة يا ابن القاهرة؟ ثم نتبعها بأين إفريقية والقيروان وفاس ومراكش وقرطبة وإشبيلية وغرناطة؟ يا لفواجع الشَّرق!
مالك تحبس دمعك في مآقيها؟ ما لعينك أخضبت أجفانك؟ وما للكآبة تعلو سانحتك؟ يا رجل إنَّ الهموم معترك الحياة ولبَّها، ولستَ باقٍ فيها في دعةٍ وفرح، إنَّما أصل البليَّة فيها أنَّها بليَّةٌ بذاتها، ما أنت بذائقٍ منها إلَّا التَّعساء والتَّرح، ولستَ من حظِّها بشاربٍ إلَّا كإصبعٍ في النَّهر تغصُّه وتخرجه، فتشرب من قطراتها عشراً تزيد شيئاً وتنقص أشياءً! فكيف ترمو منها العهد والميثاق بأن تدوم لك سعداً وبهجةً وهناءً!
وقد أُنبيتُ أنَّ فوارس المماليك قد استشاطوا غضباً، وارتجُّوا زجراً، فقتلوا رسول هولاكو، وأعدُّوا له من سعير عذابهم ملاحماً، ومن لهيب سيوفهم غُرزاً، ومن أسنَّة رماحهم قواصماً، وهدَّدوا وأرعدوا، وردُّوا الرِّسالة بكتابٍ حروفه حارقة، وكلماته قاتلة. فإمَّا النَّصر وإمَّا الشَّهادة ﴿وسيعلمُ الَّذين ظلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون﴾¹. ردَّ قُطز، بما ردَّ، وجمع جيشاً بعد أن سوَّا خلافه مع بيبرس الظَّاهر، وتحالفوا علىٰ رؤوس الكُفر، وأعلنوا راية الجهاد خفَّاقة، وأسالوا بسيوفهم علىٰ رمال سيناء يجرُّونها ثِقالاً، وهي علىٰ أرواحهم خِفافاً. متَّجهين صوب عين جالوت، يذكرون كيف داوود بحجارته الثلاثة و(نبِّطته) تلك أردىٰ جالوت الجبار علىٰ مصرعيه حتف أنفه، فُقِأت عينه فصارت عين جالوت شاهدةً علىٰ طغيان جالوت ذاك، وعلىٰ تجبُّره وعنته وكِبره. فهل يؤول هولاكو إلىٰ ما آل إليه صاحب واقعة العين ذاك؟
سرت أنباءٌ إلىٰ هولاكو، إذ قيل له أن أخاه منكو خان، الخاقان الأعظم قد هلك، فترك من جنده عدداً بقيادة كاتبغا، وانطلق عائداً إلىٰ عاصمة سلطانهم يريد حلَّ مشكلة الخلافة. إذن فهل حالف المسلمين الحظُّ؟ أم حالف هولاكو فلن تُفقأ عينه؟
وأعدَّ الجيشان العُدَّة، وجاءت الوقيعة، بين جيشٍ ارتهب من مسامعٍ وافته أن المغول جيشٌ لا يُقهر! تخيَّل.. جيشٌ لا يقهر! ألا يُذكِّرك ذاك بشيءٍ تراه من حولك: أن بني صهيون جيشٌ لا يُقهر؟ كيف لا يُقهر!! ❞حقٌّ علىٰ الله أن لا يرتفعَ شيءٌ من الدُّنيا إلَّا وضعهُ❝² يا لعظمتك وعظمة قولك يا رسول الله، بأبي أنت وأمُّي صلَّىٰ الله عليك وسلَّم. ما يرتفع المغول إلَّا ويُوضعوا، وما يرتفع الصَّهاينة إلَّا وسيُردَوا! كيف يستقيم شيءٌ أن يدوم إلَّا وجه ربِّي ﷻ!
كيف تيأس؟ بالله عليك كيف تيأس؟ بعزَّته وجلاله، وجبروته وكبريائه كيف تيأس؟ بمن سبَّحت له خوافق السَّماوات، ومجاري الأراضي، وبمن كبَّرت به الشَّامخات الرَّاسيات، وحمدت به المرسلات العاصفات كيف تيأس؟ كيف تيأس بالله عليك كيف تيأس؟ يا أحْمَلَ الخلق أمانةً كيف تيأس وقد ترىٰ الطُّيور الضِّعاف تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً؟ كيف تيأس بمن وضع في أضعف خلقه سرَّه، وصيِّر المهيضة من الحمام عُقاباً من البأس والشِّدَّة، وزرع في نفوس الخيول الأبيَّة أنفةً وعزَّةً عن عاتٍ يُذلُّها، وبالإبلِ من راعٍ لئيم يُهينها فتنقَم منه لعشر سنين لا تنسىٰ سَنْحَة وجهه ما حَيِيَت، أقسمُ عليك بجليل وجهه وكماله كيف تيأس؟ أقسمُ عليك بانتقامه ممَّن أهلك عباده وحارب دينه بالقتل ولو بعد حين؛ أن تخبرني كيف تيأس؟
قد انتصر المسلمون وقطز في وقعة عين جالوت، ثم جال بيبرس في نواحي الشَّام والسَّاحل، فطهَّرها من أهل الصَّليب والتَّتار، وأعاد أرض الشَّام للمسلمين. ثم جاء قازان يريدُ عهد أسلافه من هولاكوا وكتبغا، وأراد دمشق فجال ابن تيمية وقالوون وردفوه عن مُنيته، وانتصروا في شقحب الَّتي هي أشدُّ من أختها عين جالوت.. فهل يأست يا قُطز؟ وهل يأستَ يا بيبرس؟ وهل يأست يا مملوكي ويا ابن عبد السَّلام؟ هل يأست يا قالوون ويا ابن تيمية؟ هل يأست يا مصري ويا شامي؟ وهل يأست يا مُحمَّد بن يحيىٰ؟ وهل يأستِ يا حاجبيَّة حَوران؟ ما يفنىٰ الإسلام ولا يفنىٰ دين ربِّي..
يقول خبَّاب: ❞شَكونا إلىٰ رسولِ اللهِ ﷺ وهو مُتوسِّدٌ بُردةً له في ظلِّ الكعبةِ فقُلنا: ألا تستَنصِرُ لنا ألا تدعُو لنا؟ فقال: قد كان مَن قَبلكُم، يُؤخذُ الرَّجلُ فيُحفرُ له في الأرضِ، فيُجعلُ فيها، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضعُ علىٰ رأسهِ فيُجعلُ نِصفَينِ، ويُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ، ما دُون لحمِهِ وعظمِهِ، فما يصُدُّهُ ذٰلك عن دينِهِ، واللهِ لَيتِمَّنَّ هٰذا الأمرُ، حتَّىٰ يسيرَ الرَّاكِبُ من صنعاءَ إلىٰ حضرموتَ، لا يخافُ إلَّا الله، والذِّئبَ علىٰ غنمِهِ، ولٰكنَّكُم تستعجِلُونَ❝³
ــــــــــــــــــــــــ
¹: سورة الشُّعراء: آية ٢٢٧.
²: صحيح البخاري.
³: صحيح البخاري.
تعليقات
إرسال تعليق