جنَّة الله أم جنَّة الثَّورجيَّة والمحورجيَّة؟

 


ما رأينا خبر نعي الشَّهيد بإذن الله أبو العبد إسماعيل هنيَّة رحمه الله، حتَّىٰ توالت كتاباتٌ وتغريداتٌ ومنشوراتٌ متعارضة الرَّأي، متضادَّة الفكر علىٰ سائر مواقع التَّواصل الاجتماعي، انقسم النَّاس قسمين؛ فمنهم من غلا وأفرط بوصفه له: سيُّد الشُّهداء، وجعله في مقام الصَّحابة والأولياء، وجماعةٌ فرَّطوا في لومه لبعض مواقف جماعته -حركة حماس- السِّياسيَّة، المخالفة للحقِّ، البعيدة عن الشَّرع. والنَّاظرُ بعين الدِّين والشَّريعة ما إن يرقُب الوضع حتَّىٰ يرىٰ أنَّ هٰذا ليس من عمل الدِّين قطعاً، وليس لهم من اسمه إلَّا الشَّكل لا المضمون.

رأسُ هٰاتان الجماعتان: المحسوبين علىٰ القضيَّة الفلسطينيَّة والإخوان المسلمين من جهة، والمحسوبين علىٰ الثَّورة السِّوريَّة والمداخلة من جهةٍ أُخرىٰ. وهؤلاء أفرطوا في بيان مسألتهم، وتشدَّدوا في حكمهم، وغالا كلٌّ باستخدام الدِّين يُعضِّدُ به رأيه، ويُسند به حكمه، وهو أبعد النَّاس عن فهم مقاصد الدِّين، وعقل القياس والحكم علىٰ المسائل. ولا أدَّعي معاذ الله الفهم الصَّحيح وغيري الخاطئ، إنَّما الحقُّ بيِّن، والباطل أبيَن، فإنَّك إن لم تجد طريقك إلىٰ الحقِّ فتتَّبعه، فليس الأمر بتيِّهٍ عليكَ أن تجد طريق الباطل وتنأىٰ عنه. أرأيتَ إن سرتَ في غابةٍ فسحاء شاسعة، ورأيتَ ثلاث طُرقٍ؛ اثنان منهما غير مُعَبَّدان، والثَّالثُ فيه خطواتٌ -وإن- خفي بعضها وبقي آخر، أكان عسراً عليك أن ترىٰ أنَّهُما يُسيِّرانكَ إلىٰ المجهول؟ فإن الثَّالث وإن التبس عليك أمره، فالأوَّلان ظاهرٌ لك فساد وجهتهما. حينها لك أن تقدم علىٰ الثَّالث، أو أن تحجم عن الجميع. وأشرُّ من إحجامك عن الجميع أن تقصد الطريقين الفاسدين. مثَلُ ثورجيَّة برلين ومن عاونهم في الحكم علىٰ هٰذه المسألة مثل أحد الطَّريقين، وقضيَّتجيَّة طهران ومن معهم من الإخونجيَّة الطَّريق الثاني.

إنَّ اسماعيل هنيَّة لم يكن ملاكاً معصوماً كما يدَّعي أصحاب القضيَّة؛ إذ كان عليه مآخذٌ بتأييده لحركة حماس في إعادة علاقاتها مع نظام بشَّار الأسد، ووصفه لقاسم سليماني سفَّاح حلب وحلبجة والموصل والغوطة بشهيد القدس، وما جعلته حماس لإيران من دعاية دعم المقاومة في سبيل ردِّ التُّهم الَّتي وُجِّهت إليها في دعمها لأنظمة الطِّغيان، والحروب الطَّائفيَّة الَّتي شنَّتها علىٰ أهل السُّنَّة والجماعة في أفغانستان وسوريا والعراق واليمن ولبنان، فصارت إيران وقد دعمت حركات المقاومة في فلسطين صمَّام المقاومة والقضيَّة، وهي رأسُ الجهاد ضدَّ اليهود!

وليس شياطناً شرِّيراً كما ادَّعىٰ الجانب الآخر من ثورجيَّة برلين، الَّذين هم أنفسهم أبصروا فصائل من الجِّيش الحر و بعض كتائب المعارضة السُّوريَّة قد استمدُّوا الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة والناتو الدَّعم العسكري فأمدُّوهم، واستنجدوهم فأنجدوهم، وما قال هؤلاء كيف تصنعون باستنجادكم بعدوِّ الأُمَّة، الَّذي دمَّر فغانستان والعراق واحتلَّها، وأغار مرَّاتٍ ومرَّاتٍ علىٰ اليمن والسُّودان وليبيا، ودعم الكيان الصِّهيوني في احتلال أرض فلسطين! وما رأوا أنَّ ذلك بمُحرَّمٍ يُدخل جهنَّم!

هٰذا لُبُّ المسألة.. ما دخل الدِّين يُدخلوه بمهاتراتهم السِّياسيَّة إن ارتأوا إبعاده عن حياتهم السِّياسيَّة، وزعمهم أنَّ خير الدِّول الدَّولة المدنيَّة البعيدة عن الدِّين؟ واحدهم مُنبطحٌ علىٰ بطنه، يكتبُ في شرع الله؛ فيُحلِّل ويُحرِّم، ويُدخل جنَّة الله بالولاء والبراء لفلسطين، فمن لم يدعم حماس فهو كافرٌ تُحرَّمُ عليه الجنَّة! ومن لم يُحب حسن نصر اللَّات فهو منافق، ومن كان ضد إيران فهو صهيوأمريكي، ومن حارب ميليشيا الحوثي في اليمن، ومليشيات العراق الرَّافضيَّة فهو ضد فلسطين والمقاومة، وهو لا ريب -عندهم- أكفر من أبي جهل!

وآخرون باتوا يدخلون الفردوس من آمن بعَلَمٍ هم صنعوه، وجعلوا المؤمن من هو علىٰ هواهم، وصيَّروا ثورة الشَّام المُباركة طاغوتاً يُعَبدُ من دون الله، فما أصبحوا إلَّا كعمرو بن لُحيٍّ الخُزاعي، جلب عبادة الحجارة إلىٰ جزيرة العرب، وهم جلبوا عبادة التِّراب إلىٰ قلوب العرب.

ما هٰذا الَّذي ترون من تشرذم الفئتين، ونكوصهما علىٰ عقبيهما من غير حقٍّ؛ إلَّا عن جهل في حكم الدِّين، وغياب فقه الواقع، وتغييب العقول الرَّشيدة عن السَّاحة، غُيِّب الصالحون، وعلا الجهلة والرُّويبضات. في حين المجاهدين هنا وهناك؛ في سوريا وفلسطين، يبذلون الغالي والنَّفيس، ويعضدون بعضهم، يتبارىٰ فرسان مواقع التَّواصل الاجتماعي في تخوين بعضهم، ولعن الجماعة المخالفة لهم في مسألةٍ سياسيَّة.

لا يحضرني وقد رأيتُ من بعض جماعة الثَّورة في استشهاد إسماعيل هنيَّة إلَّا موقفهم من موت مي سكاف، جعلوها وهي النَّصرانيَّة في الجنَّة، ليس إلَّا لأنَّها دعمت ثورة الشَّام! والأمر سيَّانٌ عند قطب المحور، قُتِلت شيرين أبو عاقلة فوضعوها في الجنَّة وهي النَّصرانيَّة، واستُشهد عبد الباسط السَّاروت رحمه الله فنعتوه بالدَّعشنة والإرهاب، ولعنوه وما ترحَّموا عليه.

وحين يجيء العالم المسلم العاقل الواعي يُفتيهم بما رأىٰ في شرع الله انبروا يشتمونه ويقذفونه، ويقولون له: لا تُدخل الدِّين بالسِّياسة، ولا تأسلموا الثَّورة، ولا تُأسلموا القضيَّة. مثل هٰذا صراحةً حدث يوم رأىٰ الشَّيخ عثمان الخميس حفظه الله -أيَّام معركة سيف القدس- أنَّ الهجوم علىٰ الصَّهاينة في هكذا أوضاع إذ هم الأقوىٰ ونحن الأضعف؛ إنَّما هو انتحارٌ، وخطأٌ جسيم.

فلو رأيتهم كيف تهجَّموا عليه في ذاك اليوم، وأمَّا بعد معركة طوفان الأقصىٰ صار بعضهم يشتم حماس لشنِّها تلك الحرب! هٰذا التَّناقض كما ترىٰ منبعه غياب الفهم السَّليم لفقه الواقع، ورؤية المرء لنفسه أنَّه الحكيم العليم ذو الرَّأي الحصيف، والفكر الرَّصين!

ألا سُحقاً للمتفيهق، والخزي للرُّويبضة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١