زيدٌ التَّائه ١: خلَجاتُ الصَّدر



طيفٌ لعلوةَ ما ينفكُّ يأتيني
يصبو إليَّ عَلى بُعدٍ ويُصبيني

«أُصدِقُكَ القول يا صاحبي، لو رأيتني حين رأيتها لأوَّل مرَّةٍ، يوم سالَ علىٰ طرفي غباشٌ من فقدِ واقعي، وجعلتُني لا أقف أمامها سوىٰ كجلمودٍ لا حراك فيه، تُكلِّمني وأماليها السُّكوت جواباً، تطلب استفهاماً وتفصيلاً، وأجيبها إبهاماً واختصاراً، وذاك لعمري لو علمتَ أبلغ الأقوال جواباً، وكيف بي أجيب وناظريها ليس كأي المُقل؟ وكيف أُجيبُ وتلك اللَّحظة صارت ساعةً لفرط شدَّتها عليَّ؟ وكيف أجيبها وأنا الباحث عن المخرج؟ غير العالم بسبيل التَّخلُّص؟ فقطعت دابر الحديث ابتداءً، وأردفتها في مجال الحيرة انتهاءً، تظنُّ التَّجاهل طبعي، والاستصغار جُبلتي، وما كنتُ إلَّا وقد أسلبني الحياء المقدرة علىٰ الحديث، والصَّدمة أنأتني عن الجواب. إنِّي يا صاحبي ليس كما يُخيَّلُ للجميع، أنا أضعف من صورتي الظَّاهرة، وأحنُّ من شدَّتي البائنة، وإن بعض الغرور الَّذي يظهر علىٰ حركاتي وسكتاتي ما هو إلَّا عرضٌ أُركِّبه، وليست سجيَّةً في داخلي، لو رأيت بعض التَّواضع الَّذي أقاسيه في نفسي، لوضعتني نبراساً لتلك الصَّفة، كما الحاتميُّ في الكرم، والمزنيُّ في العقل، والتَّميميُّ بالحِلم، لصرتَ تقول ما زيدٌ هذا إلَّا شعلة تواضعٍ.

وقد حسبتني أثقل عليها بصمتي عنها وتولِّيَّ عن محادثتها، وراحت لا ريب تشتمني في سرِّنا، ولو كنتُ مكانها لصنعتُ كما أحسبها صنعت، وأيُّ امرئ تراه يولِّيك ظهره في حين استعجالك الجواب؛ ثم تمضي علىٰ هٰذا تكنُّ له احتراماً؟ لا أحسبكَ تفعل، ولا أحسبني حتَّىٰ أنا أفعل. لكنَّها يا صاحبي بقيت في ذاكرتي، ولو أنِّي نسيتُ صورتها حينها حتَّىٰ أتت لحظةٌ أخرىٰ تذكَّرتُها فيها، إذ كما تعلم ذاكرتي لا تعمل إلَّا عن استذكار المخطوط والمكتوب، أما الصُّورة فعندي تذكُّرها عسير، أحسبني خُيِّرتُ بين المكتوب والمرأي، فاخترتُ الأولىٰ، فحُرِمتُ الثَّانية. ولكنَّ ذاك المشهد قد علقَ في ذاكرتي، وكان يُخيَّلُ إليَّ صورةً لأحد، كما لو شاهدت مسلسلاً إيرانيَّاً يصوِّر لك قصَّة نبيٍّ، فيضعوا حول شخصيَّة النَّبي هالةً نورانيَّة ساطعة.. نعم صرتُ أتخيَّلها كتلك الهالة، وإنِّي وإن نسيتُ اسمها حتَّىٰ، إلَّا أنِّي تيقَّنتُ بعد أن من اسمها نصيب.»

أغلقتُ الرِّسالة، ثم فكَّرت فيما كتبَ زيدٌ إليَّ، وقد رحل منذ مدَّةٍ، قال لي أنَّهُ أراد السَّفر بعيداً بغرض العمل واستكمال الدِّراسة، إذ حيثُ كان -يعني مقامي الآن- ليس فيه من المستقبل شيئاً يُعوَّل عليه، يُريدُ أن يصنع لنفسه طريقاً إلىٰ غايته، الَّتي -بالمناسبة- حتَّىٰ هو لا يعرفها. ولعلمي بحقيقة خبايا نفسه الَّتي ما فتأ يُخفيها؛ ما صدَّقتُ مقالته حينها لي، وشككتُ في أمري، فإن أمراً مثل هٰذا يظهر علىٰ فلتات اللِّسان، قال لي: أُريدُ السَّفر بعيداً! ولم يقُل أريدُ السَّفر لغرض كذا وكذا، بل بعيداً، أي أنَّ علَّة السَّفر هي الابتعاد، لا بناء مستقبل، وتعبيد طريقٍ نحو النَّجاح. أتراك حين تصنع والدتك لك أكلة (المسقَّعة) ما تقول؟ تقول: أُريد غيرها. فأنت إذن لا تُريدُ شيئاً بعينه، يكفيك ألَّا تأكل من هٰذه الأكلة الَّتي تكره. الأمر سيَّانٌ مع زيد، يُريدُ وجهةً غير وجهة هذه المدينة الَّتي أسقمته، فما عدتُ أعرفه.

خلدتُ إلىٰ فراشي بعد قراءة آخر فقرةٍ وختمها بتوقيعه. وكان فيها يكمل فيقول:

«يا صاحبي أحسبني سقطتُ من حينها، ولو لم يستبن لي ذاك السَّقوط إلَّا بعد شوطٍ من الزَّمن. إذ ما يبقىٰ ذاك المشهد في الذَّاكرة إلَّا عن خطبٍ غريبٍ سيحدُث، وكنتُ أحدِّثُ به نفسي أن لمَ كلُّ هٰذا الاستذكار لتلك الحادثة؟ ولمْ أجد جواباً، وقد حكيت لك حينها عن ما حدث، وأظنُّ حديثي مرَّ عليك مرور العابرين، لا الأعزَّاء ولا المكرمين. وقد أُنصفك علىٰ ما شعرتَ وقتها، إذ لو نظرنا الآن إلىٰ تلك الحادثة لوجدناها أضعف من أن تروىٰ علىٰ سبيل الحديث، وأقلُّ من العادي إذ ما رويت حكايةً. كانت بسيطةً جداً، ولكنَّها في عيني هائلة، رُبَّما كان ذٰلك لندرة هٰكذا حوادث عندي.. لا أحدُ سبباً آخر! هل تجدُ أنتَ؟ 

وأخبرني عن حالك كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وكيف تقضي يومك بعيداً عنِّي؟ وهل مازالت ترسبُ في مادة الاقتصاد للمرة الوحدة والوحدين، قد علمتكَ تكرهها فلا أظنُّك تنجح بها.. اعذرني علىٰ هٰذا التَّحطيم، ‏‎”اليأس إحدىٰ الرَّاحتين“.
دُمت في هناءٍ وسعد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صاحبك الأمين زيدٌ التَّائه»

نمتُ أفكُّر ببعضِ ما كتب، وأعاين الكلمة إثر الكلمة، والحرف إثر الحرف، وقد عجبتُ أنَّه في طوال الرِّسالة ما زاد شيئاً إلَّا أن شرح عن شعوره في لحظةٍ واحدةٍ فقط! تُرىٰ كم يطول الأمر حتَّىٰ يفيض عليَّ من تفاصيل قصَّته، الَّتي كنتُ فيها حاضراً غائباً، (شاهد مشفش حاجة)؟ أرَحتُ وجنتي علىٰ باطن كفِّيَ الأيمن، وقرأت فاتحة الكتاب والمعوِّذات وآية الكرسي، وكبَّرتُ الله ٣٤، وحمدتُه ٣٣، وسبَّحتُه مثل ما حمدت، وأتبعتُ كلَّ ذلك بتبارك. فهذه عادتي منذ سمعتُ فضل الَّذي ذكرت. ثم خلدتُ إلىٰ نومٍ عميق، كأنِّي صمتُ ١٨ ساعة، بعد عملٍ مضنٍ، ودراسةٍ مُشقيةٍ مُهلكة.. أو ليس كأنِّي، بل فعلاً هٰذا ما عشته طوال اليوم.
استفقتُ علىٰ صلاة الفجر، توضَّأتُ وصلَّيتُ، ثم انكفأتُ إلىٰ وردي أقرأه، وعمدتُ بعدها إلىٰ فنجال قهوتي أستصبح بها علىٰ يومٍ جديدٍ مالؤوه أنا لا ريب بما لا يدع للفراغ علىٰ بابي نصيباً، وقد تذكَّرتُ رسالةَ زيدٍ لي. فتوجَّهتُ نحو الطَّاولة، وأخرجتُ قلمي من نوع زيبرا الياباني، وكان قد أهدانيه سابقاً، وضعتُ الورقة علىٰ الطَّاولة، وكتبتُ له بعد السَّلام، والسُّؤال عن الحال، والحمد والثَّناء:

"آهٍ يا صاحبي التَّائه، أحياناً أحمدُ الله ربِّي أن خرجت من عندي بعيداً كي تقدر علىٰ البوح بما في خلجات صدرك، وبما في مكنون نفسك، ومستودع سرِّك الكائن في سويداء قلبك، وقد علمتُ عظيم الخطب الَّذي حلَّ بك بعد إعراضك عن إخباري، وأنا من أنا عندك من الصحبة والرِّفقة، يُخفِّفُ عنِّي آن آني هٰذا صرفكَ لنفسك عن بعض المتاعب، وكتاباتك لي تخبرني فيه ما اعتركته في صدرك حيناً، وجال في خاطركَ زمناً، وصيَّرك محزوناً وأنا الَّذي عرفتك أفرح النَّاس خاطراً، وأجههم وجهاً، وأبهاهم نفساً. فاكتب فاكتب يرحمك الله، واعلم أنِّي لن أكتبَ لك كثيراً إلىٰ أن توضح لي كامل الصُّورة، وخلال تلكم المدَّة لو أرسلتُ لك فلن يكون إلَّا كعُشرِ مكاتبيك، حين تفرغُ فقط أُرشدُك إلىٰ جميل النُّصح وخير الإرشاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صاحبك حسن"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١