قصَّة قصيرة: الولاء والبراء في إنسانٍ ما

 


- ألا تجدُ نفسك مُتحاملاً بوصمك لفلانٍ وعلِّان بصفاتٍ لا تليق؟ أما كان خيراً لو انشغلنا بالفكرة بدل نقاشنا حول رجالها؟ فما أنت ولا أنا بأهلٍ لأن نكون من رجالات الجرح والتَّعديل. أعني نعم قد تكون صدقت في وصمك له بالأشعريَّة، وهو لا ضير حقٌّ بأن يُنبَّه النَّاس عن بعض الأشخاص، لٰكن دون أن يكون ذٰلك مخوِّلاً لك أن تدخل في تكفير جماعةٍ منهم أو إخراجهم من الملَّة، لاسيَّما وأنت بعدُ -اعذرني علىٰ القول- غِرٌّ في مجال العقيدة، ابتدأت عهدك بذلك منذ عامٍ أو أقل، وهي فترةٌ قصيرةٌ نسبياً. أحبُّ لك الصَّلاح يا آخي يا مُعاذ فلا يزعجنك قولي..
- (يردُّ معاذ): أما ترىٰ ما ورد في كتبهم من موافقاتٍ للأشعريَّة، وتكفير الإمام أحمد بن حنبل لهم؟
- الإمام أحمد كفَّر الجهميَّة، فالأشاعرة لم يظهروا في عهده.

- (يتدخَّل بلال علىٰ الخط): أعجبني قولة الحقِّ الَّتي صدرت منك، ولو علىٰ ما فيك من الأرجحة.
- يا بلال، قولي بأنَّ الأشاعرة لم يكونوا في عهد الإمام أحمد فيه ما هو عليهم من الذَّم لا لهم.
- وكيف ذلك؟
- ذاك أن الإمام أحمد وقد عاش في القرن الثَّالث الهجري، وهم لم يظهروا إلَّا في آخره، فهٰذا يعني أنَّهم مُبتدعة.
- ماذا؟! إذاً قولك له بأنَّه قد صدق في مقالته عن أشعريَّة الإمام النَّووي، وأنَّ الأشعريَّة مُبتدعة، فهذا يعني أنَّك تُكفِّر الإمام النَّووي؟ أترىٰ أنَّهُ أشعري، أتُكفِّره!
- نعم يا بلال هو أشعري لا ريب، ولٰكن لا أكفِّره ولا أقول في بدعيَّته من عدمها إذ لم أقرأ ما يكفي، ولٰكنَّ حديثي لمعاذ بأن الكفَّ عن الخوض في الأشخاص خيرٌ من الانشغال عمَّا هو أجدىٰ وأهم.

- (ينفعل بلال): قولك هٰذا والله ليس إلَّا كقوله! أما تستحي يا رجل وأنت تخوض في لحوم العلماء؟ فإنَّها والله مسمومة. لم يبقىٰ أيضاً سوىٰ أن تطعن بالغزالي والرَّازي والسُّيوطي، بل حتَّىٰ أحسب أنَّك تبلغ من الرأي أن تطعن بأبي حنيفة وتكفِّره، ثم لا تلبث إلَّا أن تطعن بالتَّابعين، ثم بصغار الصَّحابة، ثم بكبارهم، ثم يصل بك أن تقدح بصدقهم وعدالتهم، ثم من يدري رُبَّما استطلت، فطعنت بالخلفاء الرَّاشدين، بل وحتَّىٰ والعياذ بالله ستطـ..
- مه! مه! ما ذاك الَّذي تقول؟ ما علاقة هٰذا بذاك؟ أأودىٰ بك الحال أن تتأوَّل عليَّ مقالةً ما قلتها، وتزيد في سوء الظَّنِّ في تزعم استطالتي علىٰ الصَّحابة والعلماء والأئمة يا بلال!
-(يتدخل معاذ علىٰ الخط) هل تعني أنَّ أبا حنيفة ليس كافراً مرجأً، وأن النَّووي والسُّيوطي وابن حجر والغزالي والرَّازي علماءٌ وأئمة يا مُحمَّد؟!
- أبي حنيفة كافر!! معاذ الله أن أقول مثل هٰذا القول. معاذ الله
- (يُكمل معاذ): ولٰكن الإمام أحمد في كتابه السِّنَّة قد بدَّع أبا حنيفة.
- الكتاب ليس للإمام أحمد، بل لابنه عبد الله بن أحمد.
(سكت معاذ هنيهةً، ثم أردف): وهل ترىٰ أنَّ النَّووي، وابن حجر، والسُّيوطي أئمَّة إذن؟
- أئمة؟ متىٰ قلت ذلك؟ هم علماء لا ريب، لهم محاسن وعليهم مآخذٌ. أمَا لكم أن تعدلوا؟ ما لي أرىٰ فيكم من أخذه الإفراط فأمَّمهم، وآخرٌ أخذه التَّفريط فكفَّرهم! العدلُ حقٌّ يا شباب، العدل أجدىٰ بكم من الظُّلم، والإنصاف خيرٌ من الإجحاف، لا تغالوا فيهم ولا تُنكِروهم جملةً، كونوا في أوسط الأمور فهي أخيرها، واعلموا أن لكلٍّ رجلٍ من الخيرات ما لو فاضت في كفَّة الميزان لرجح عندنا فضله، ولو كانت مساويه أرجح في ميزانه لاستبان عندنا إذن شرَّه. العاقل من رأىٰ النَّاس علىٰ بشريَّتهم، والجاهل من وضع البشريَّة جمعاء في مواضع الرُّسل والأنبياء، فصار عنده أنَّ الأصل فيه العصمة؛ لا يمازجهم إلَّا بتلك الصُّورة، فإن رأىٰ في واحدٍ منهم عيباً هجاءه حتَّىٰ ساواه بإبليس، وإن أبصر فيه نعمةً أقرنه بالملاك.

- (يُقاطعه بلال): كُفَّ عن المواربة، واصدع بعقيدتك كما فعل معاذ، فهو والله عندي علىٰ معارضتي له خيرٌ منك، ليس لشيءٍ سوىٰ أنَّه أشجع في رأيه يعرضه منك أنت، فلا تجبن، وقل بملء فاهك أنَّك تطعن بالعلماء، وتُكفِّر الأولياء.
- هل ترىٰ أنَّ من صلاحيَّتي يا بلال وأنا بعدُ طالبٌ لستُ بعالمٍ ولا قاضٍ أروِّي في حكم كلِّ رجلٍ؛ أمسلمٌ هو أم كافر، أسنِّيٌ كان أم مُبتدع، أأثريٌّ بذاته أم أشعري؟ ما شأني وإيَّاهم؟ عرفتُ الحقَّ فلزمته. ودعوت إليه إذ زكاة العلم نشره. فما شأني بالنَّاس؟ وهل يحاسبني الله علىٰ رأيي بفلانٍ وعلَّان!
- (يِقاطعه بلال): أتقول عن النَّووي فُلان! قل لي بسرعة ما رأيك بالنَّووي؟
- أيُمتحن الرَّجل بلا إلٰه إلَّا الله مُحمَّد رسول الله أم برأيه بإنسانٍ ما؟
- أتعتبره إنساناً ما!
- أيُمتحن الرَّجل بلا إلٰه إلَّا الله مُحمَّد رسول الله أم برأيه بشيخٍ ما؟
- أتعتبره شيخاً ما!
- أيُمتحن الرَّجل بلا إلٰه إلَّا الله مُحمَّد رسول الله أم برأيه بعالمٍ ما؟
- (يتدخَّل معاذ علىٰ الخط ساخراً): لن ترضىٰ عنك الأشعريَّة ولا الماتريديَّة حتَّىٰ تتَّبع فرقتهم وتقول بإمامة النَّووي (يضحك)

- (يكمل مُحمَّد كلامه دون أن يأبه لسخرية معاذ) ألا تكفَّ يا بلال عن امتحانك لي كما امتحنت المعتزلة العلماء بخلق القرآن. فالنَّووي الَّذي تمتحنني به في مكتبتي بعض مؤلَّفاته وكتبه، أستزيدُ منها خيراً، وأنتفع بها نفعاً عظيماً.
- (يردُّ بلال): اسخر اسخر، ستعلم حين يُحاسبك الله علىٰ طعنك بالعلماء.
- وهل بيان أخطاء بعضهم هو طعنٌ بهم؟ أهم معصومون؟ أهم قدِّيسون؟ أم ترىٰ صرنا في شريعتنا كما النَّصارىٰ، رفعوا القساوسة إلىٰ مرتبة الأنبياء، وصنعوا لمحياهم أعياداً، وبآثارهم أضرحة، وصيَّروا أقوالهم إنجيلاً؟! وصاروا وقد عبدوا المسيح مع الله، ثم أردفوا الحواريِّين بركب العبادة، ثم أتبعوا بهم بعض الرُّهبان، وجعلوا لا يقرأون للفهم إنَّما فقط لأن تلكم الأقوال أقوالهم فحسب. إنَّ الله ما أمرنا بتقديس البشر فهم إلىٰ الفناء، وما جُعِل لأحدٍ غير الأنبياء العصمة، وما أحد فوق النَّقد الحق، وما من أحدٍ له من الرِّفعة فوق البشر ألَّا يُنقد. وتخيَّل، حتَّىٰ أنَّنا نُهينا عن زيادة التَّبجيل للأنبياء، ووضعهم فوق الرُّتبة الَّتي جعلها الله لهم، وذاك حذراً من الوقوع في مصيبة الغلوِّ فيهم، فيمسي البعض وقد دعوا الأنبياء مع الله، ثم من دون الله، ثم يُعبدونهم مع الله عبادة الصَّلاة، ثم من دونه إذ صيَّروا لهم تماثيل كما صار الأمر مع قوم نوحٍ، ومن بعدهم النَّصارىٰ، يقول عظيمنا ﷺ: ❞لا تطروني كما أطرَت النَّصارىٰ عيسىٰ ابن مريم❝.. و..
- (يُقاطعه بلال): كنتُ أعلم أن الحال سيصل بك أن تطعن بالأنبياء.

يسكتُ مُحمَّد قليلاً، يُدير ظهره، ويأفلُ راجعاً من حيثُ أتىٰ.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١