أولمبياد برعاية سَدوم

 


منذ أن نما لي خبر أن فرنسا ستسضيف دورة الألعاب الأولمبيَّة ٢٠٢٤م (أي منذ شهر فقط)¹ علمتُ أن فرنسا لن تُمرَّ هذا الحدث مرور الكرام، بل مرور اللِّئام والفُسَّاد، وقد توقعت أن يكون هناك شيءٌ من دعم وجوه الفساد الأخلاقي، كما يحصل في الملاعب، إذ يفرضون علىٰ اللَّاعبين وضع شارة المخنثة علىٰ الذِّراع، أو علىٰ القميص بذاته، أو حتَّىٰ السَّماح برفع رايتهم المشؤومة، أو وضع شارتهم علىٰ محطات النَّقل الرَّائي، أو شيئاً من قبيل هذا.. لٰكنِّي صدقاً ما توقعتُ أن يصل بهم الحال إلىٰ هٰذا الدَّرك!

ليس ذاك أنِّي ما توقَّعتُ أن يصل بهم الفساد إلىٰ هٰذه الدَّرجة؛ بل أن الغالب علىٰ الدُّول الَّتي تستضيف أحداث رياضيَّة أو ثقافيَّة؛ كالمونديال (كأس العالم)، أو دورة الألعاب الأولمبيَّة، أو إكسبو ..إلخ تجهد تلك الدُّول بتقديم عروضٍ تُبرز ثقافة المجتمع الَّذي تُمثِّله، فقط: مثلاً قدَّمت قطر عرض الافتتاح بالقالب العربي، ثم حتَّىٰ تسليم كأس العالم كان بالبشت، فألبسوا قائد الفريق البطل البشت حتَّىٰ تكون صورةً ولقطةً خالدة، فأنت لا تتذكَّر ميسي مع كأس العالم إلَّا باللِّباس العربي= هٰذه قوَّةٌ ناعمة. الأمر سِيَّان مع جنوب إفريقيا لمَّا استضافت كأس العالم ٢٠١٠م كأوَّل بلد إفريقي، كذلك الصِّين في دورة الألعاب الأولمبيَّة ٢٠٠٨م، والإمارات في إكسبو ٢٠٢٠م، وغيرها الكثير.

فالحاصل، أن المُتوقَّع والمفهوم أن تجهد فرنسا في إبراز صورتها في احتمالها لمبادئ الحُرِّيات الَّتي قامت عليها الثَّورة الفرنسيَّة، وتمسُّكِها بالعقد الاجتماعي، ورفع راية الدِّيموقراطيَّة وحُكم الشَّعب وغيرها من مبادئ الدَّولة الحديثة. كذلك كان من المتوقَّع أن تُظهر للمشاركين صورة فرنسا السِّياحيَّة، حتَّىٰ يعود المشجِّع فيما بعد إليهم سائحاً أو زائراً. هٰذا ما كان منتظراً من فرنسا، أو علىٰ الأقل هٰذا كان هو مفترض!

ولكنَّك ستتفهَّمُ صنيعهم ذاك من نشر الفساد والانحلال إذا ما علمت التَّالي:
هناك علمانيَّتين؛ العلمانيَّة واللَّائكيَّة، فأمَّا الأولىٰ فهي أن الدَّولة تعترف بالدِّين وتُقرُّ به، وترىٰ حتَّىٰ دين الدَّولة معروفٌ ومعتمد، ولكنَّها لا تعترف بتشريعاته كالمملكة المتَّحدة واليابان، أمَّا الثَّانيَّة فهي عدم اعتراف الدَّولة بالدِّين، أي أنَّها دولةٌ لا دينيَّة كالولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة وتركيا وفرنسا. فنرىٰ جليَّاً أن اللَّائكيَّة هي قطع صلة الدَّولة بالدِّين، وهٰذا غير الدَّولة الملحدة والَّتي هناك منها واحدة هي ألبانيا.

وحتَّىٰ اللَّائكيَّة تكون علىٰ قوالب؛ فهناك القالب الأمريكي الَّذي تراه مقرَّاً للقسم علىٰ الكتاب المقدَّس رغم أنَّ هٰذا معارضٌ لمبدأ اللَّائكيَّة، ونرىٰ تركيا الَّتي ما وصلت هٰذا المستوىٰ ولٰكنَّها تُظهر بعض مراسيم التَّديُّن في شكل الدَّولة واعتماد مؤسَّسة الشَّؤون الدِّينيَّة بل ودعمها بميزانيَّة تفوق وزارة الدِّفاع، ونرىٰ علىٰ الجانب الآخر فرنسا الَّتي وصل بها الأمر حدَّاً مغالياً، فمثلاً: منع البوركيني²، تُحاربه فرنسا لارتباطه بالنِّساء المسلمات. وكذلك منعها للنِّقاب. ومنعها للحجاب والعباءة في المدارس والجامعات لمخالفتها للقيم اللَّائكيَّة. أي صارت اللَّائكيَّة من محاولة فصل الدِّين عن الدَّولة وعدم الاعتراف به، إلىٰ محاولة سلخ الدِّين عن الشَّعب، وفرض دينٍ آخر عليه؛ دينٌ إلٰهه الهوىٰ، ورسوله الدَّولة، وكتابه الدُّستور.

هٰذا الغلو في نشر اللَّائكيَّة ليس من فراغ، هو ردَّة فعلٍ من تاريخٍ طويلٍ في التَّطرُّف الدِّيني الَّذي تزعَّمته فرنسا في السَّماح لرجال الدين الكاثوليكيِّين بالسَّيطرة علىٰ نواحي الحكم، وكذلك التَّعاون بينهم وبين طبقة الارستقراطيِّين والملك. وهو (أي الغلو اللَّائيكي) في صلبه متناقضٌ مُتعارضٌ، لا يُفهم في مواضع، فمثلاً لائكيَّة فرنسا تُجرِّم الإساءة لرمز الدَّولة، بل حتَّىٰ لابن رئيس الدَّولة (ابن ساركوزي أنذاك)، ولكنَّها تُقرُّ بالإساءة لشخصيَّةٍ دينيَّةٍ تُمثِّل ما يقرب من ملياري شخص حول العالم (أقصد عظيمنا ﷺ). لائكيَّة فرنسا تُسمح بالإساءة للإسلام عموماً، وحرق المصحف، ولكن التَّظاهر ضد إسرائيل (لاحظ ليس اليهوديَّة حتَّىٰ) فهو مُحرَّم! لائكيَّة فرنسا تفصل الدِّين عن الدَّولة ولا تعترف به؛ ولٰكنَّها تُعيِّن رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة، وتُقرُّ الأعياد المسيحيَّة، وفي نفس الوقت تغلق المساجد ولا تعترف بالأعياد الإسلاميَّة الَّتي يحتفل به ما قرابة ٨ مليون مسلم في فرنسا!

منذ عهد الثَّورة الفرنسيَّة وطريقة إعدام ماري أنطوانيت، لم تصل فرنسا إلىٰ حدِّ من الدركات أن تحتفل بقطع رأسها في محفلٍ يُفترض أنَّ يكون فيه فصلٌ عن السِّياسة، فما معنىٰ أن تستنكر فرنسا قطع الرَّجل المسلم الشِّيشاني (حفظه الله) لرأس المعلِّم الفرنسي (لعنه الله) الَّذي سخر من مقام عظيمنا ﷺ، ثم تعمد هي إلىٰ الاحتفال بقطع رأس ملكة فرنسا الأخيرة قبل الثَّورة. وكأنَّ الأمر عاديٌّ إلىٰ هٰذا الحد! وهي بالمناسبة أوَّل من مهَّد لمصطلح الإرهاب، إذ حين بدء عهد ما يُعرف بحكم نادي اليعاقبة بعد الثَّورة الفرنسيَّة، والأناركيَّة القوميَّة المناهضة للملكيَّة، وما صنعوا من إرهابٍ بإعدامٍ جماعي للمخالفين تحت مقصلة الإعدام. 

رمزيَّة هذا الحفل قد زاد عن صورته حتَّىٰ وصل الحال بفرنسا ليس فقط أن تعتدي علىٰ الأديان الأخرىٰ كالإسلام، بل أن تتجرَّأ أيضاً علىٰ تاريخها الحضاري: أعني المسيحيَّة. فالمسيحيَّة في فرنسا قد ارتبطت حتَّىٰ ما عادت تنفكُّ عنها، فكأنَّها بتصوير لوحة: العشاء الأخير لدافنشي، والَّتي صوَّر فيها المائدة الَّتي دعا المسيح -عليه السلام- ربَّه ﷻ أن ينزلها عليهم، فأكل منها روح الله وحواريه، وهي قصَّة مشهورةٌ في ديننا ودين النَّصارىٰ علىٰ سواء؛ كأنَّ فرنسا بالسُّخرية من هٰذه اللَّوحة قد أعلنت قطع صلتها كُلِّياً بإرثها الحضاري³، ومحو تاريخها التَّديُّني، وبدء عهدٍ جديدٍ من السَّقوط إلىٰ الهاوية. انظر حتَّىٰ إلىٰ رمزيَّة استبدال صورة المسيح بخنزيرٍ متحوِّل، يضع خلف رأسه شيئاً يومئُ إلىٰ الهالة النُّورانيَّة خلف المسيح. هٰذه دركاتٌ ما بعدها دركات.

وهو عصرٌ من الاضمحلال الَّذي تحدَّثَ عنه ابن خلدون في دورة حياة الدُّول، أن الرِّجال الضُّعفاء يهيؤون الطَّريق لدولةٍ ضعيفة، فأدنىٰ عدوٍ يُدِّمرها لا محالة، ويصنعون من التَّرف والرَّخاء ما يكون سبباً في هلاكهم، يقول في مقدِّمته يصف حالهم: ‏‎”ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العزِّ والعصبيَّة بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم التَّرف غايته بما تبنَّقوه من النَّعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالةً علىٰ الدَّولة، ويفقدون العصبيَّة بالجُملة، وينسون الحماية والمُدافعة والمُطالبة“. تذكَّر عصر قوَّة فرنسا باحتلال نصف إفريقيا، وبلاد الشَّام، جزاء من الأمريكيتين وقبلها ما وصل إليه نابليون في أوروبا واحتلال مصر.. وما بلغوه الآن من الضَّعف والهوان بسيطرة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة عليها منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية!

بل لك أن تنظر حتَّىٰ لصورة ذاك المكتسي بالأزرق الَّذي وضعته فرنسا تحت طبق الطَّعام، هو تجسيد لدنيسيوس، وهو من ضمن آلهة الميثولوجيا الإغريقيَّة الاثنىٰ عشر، يُجسِّد رمز الخمور والفساد والانحلال والفوضىٰ، ويجمع تناقضات؛ فهو ذكرٌ وأنثىٰ، وإلٰهٌ وإنسان، ومتحضِّرٌ وفوضوي، وحكيمٌ وغبي. وأمَّا اللَّون الأزرق فهو دلالة علىٰ ما يعتقده النَّصارىٰ من أنَّ اللَّون الأزرق لون القداسة والملائكة، وحتَّىٰ في لوحة العشاء الأخير أظهر دافنشي المسيح يلبس رداءً فيه زرقة تبعاً لمخيَّلة الكنيسة. فالواضح أنَّ رمزيَّة المسخ الأزرق هٰذا تقديمٌ علىٰ أفول نجم التَّديُّن واعتلاء الانحلال سدَّة الحكم.

لم ينتهي الأمر عند هٰذا الحد، بل ظهر أيضاً مجسَّماً لرأس عجلٍ ذهبيٍّ، في إشارةٍ لعجل السَّامريِّ، الَّذي صنعه من قبضةٍ من إثر الرَّسول (جبريل -عليه السلام-)، وسوَّاه عجلاً، فعبده بنو إسرائيل بعد غياب سيدنا موسىٰ ﷺ لأربعين يوماً. وقد تقولون بما أنَّ هٰذه رمزيَّة دينيَّة عند اليهود فكيف صارت لائكيَّة؟ علىٰ أنَّ البعض يتناسىٰ أنَّ اليهود (شبه منكرين) ليوم البعث، لا يركضون خلف معاني الشَّهادة والحساب والميزان، والثَّواب والعقاب، كما عندنا نحن وعند النَّصارىٰ، بل يعتبرون أن الجَّنَّةَ أرضيَّةٌ، وأن مُلكَهُم عائدٌ بقدوم مسيحيهم (المشيح)، الَّذي هو من نسل سيدنا داوود⁴ -عليه السلام-. إذن فتقديم رموزٍ لليهود لا يعني التَّديُّن بقدر ما هو نشر لثقافة قومٍ ما، وهؤلاء بإظهارهم لرموزهم فهو إيماءٌ إلىٰ علوِّهم واستكبارهم في الأرض.

فكأنَّ هٰذا بحقٍّ هو «نهاية التَّاريخ» الَّذي تحدَّث عنه فوكوياما، ويعني فيه: افتراض أنَّ نظاماً سياسياً اجتماعياً يتطوَّر ليصبح نقطة نهاية التطور الاجتماعي للبشريَّة والشكل الأخير للحكومة، ونهاية تاريخ هٰذه الحقبة.

ــــــــــــــــــــــــ
¹: وذلك بسب قضية امتناع ريال مدريد عن التحاق كيليان مبابي بمنتخب فرنسا، وإذ لست محبَّاً كذلك لألعاب الأولمبياد؛ حسبي من الألعاب كرة القدم.
²: وهو لباس البحر للمتحجِّبات، يُزعم أنَّهُ ساترٌ.
³: يُذكِّرني هذا بانقلاب الحروف الَّذي أقرَّهُ مصطفىٰ كمال أتاتورك من الأحرف الهجائيَّة العربيَّة، إلىٰ الحرف اللَّاتيني، إذ قطع بذلك صلة الوصل بين أتراك العصر الحديث وتاريخهم المكتوب (قرابة ألف ومئتي سنة).
⁴: لا يعتبرونه نبيَّاً أو رسولاً؛ بل مجرد ملك، هو وابنه سليمان -عليهما السلام-.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١