قصَّة قصيرة: نصيبُ الأرض من كلِّ شيء



- الكلُّ راح ياخذ نصيبه، لا تتحرجموا علىٰ بعضكم، الرَّويَّة الرَّويَّة.. الصِّغارُ أوَّلاً ثم الكبار، النِّساء ثم الرِّجال. الزموا الطَّابور
- يا عم يا عم، دوري دوري الآن.
- نعم، مش أنت عمر؟ وين أبوك يا ولد؟ 
- استشهد في مجزرة المعمداني.
- الله يتقبله يا رب.
- وأخوك حمزة؟
- وهو كمان استشهد معه في نفس المجزرة.
- الله يتقبلهما ويرحمهما.
- ووالدتك؟
- استشهدت في مجزرة المواصي مع أختاي هناء ومريم.
- إنَّا لله وإنَّا إليه لراجعون. الله يرحمهم يا رب.
- قديش حصَّتنا من الطَّحين والعدس يا عم؟
- كيليِّين طحين، ومثلهما من العدس. مين ظل من أسرتك؟
- أنا وأختي ريم وأخواي سعد وباسل.
- أعماركم؟
- أنا ٩، وريم ٨، وسعد وباسل ٤ و٢.
- تمام، راح أعطيكم ٦ أكيال من الطَّحين و٥ من العدس.
- ليش هيك؟ مش كل واحد له كيليِّين من كل نوع؟
- لأ، الصِّغار لهم حسبة غير الكبار!

قد اكتهل عمر في ريعان شبابه، وغزا المشيب فروة رأسه، وانتعل الزمان حذاء الهناء عنه، وضوَّحت يد النوىٰ أهله، وما اصطبر لعيشه أن يسعفه بقليلٍ من عطف الأبوة، ولا الشيء النزير من حنان الأم، وما وجد نفسه وهو الأوسط إلا في ليلةٍ وضحاها قد صار البكر لأبٍ غير حيٍّ، ولأخٍ تمنىٰ علىٰ ربِّه لو عاش هنيهةً أخرىٰ فلا يشاكسه فيها، ولا يداقره لحظةً. ووجد نفسه عمَّا قريبٍ دون أمِّه وأختاه هناء ومريم، الَّتي الأولىٰ كانت قد لحقت بزوجها وقد اقترنت به قُبيل بدء طوفان الأقصىٰ، ومريم الَّتي كانت قد تخرَّجت من الجامعة الإسلاميَّة لتوِّها.

أشدُّ ما في هٰذه الحرب أنك لا تجد وقتاً للحزن، ولا يسعفكَ المكان للبكاء، فما إن تسترح في موقعٍ يقول العدو أن ننتقل إليه، حتَّىٰ يجبرك علىٰ تركه إلىٰ غيره، وحتَّىٰ لو رحت إلىٰ المكان المقرَّر فلن تأمن علىٰ نفسك فيه أيضاً، ستجدُ نفسك عاجلاً أم آجلاً تحت الرُّكام إذ لا أمان من قول العدو، والنَّاس تسمع له إذا لا مناص غير ذلك. أصعبُ ما في هٰذه اللَّحظة ليس أنَّك ستقتل؛ بل أنَّك ستترك من هم بعدك في حيرةٍ من العيش.. من سيوفر لهم الطَّعام والشَّراب والمأوىٰ، أن تنظر إلىٰ عيني أخيك لتقول له لا تقلق، أنت في أمان.. وأنت تعلم علم اليقين أن الأمان هاهنا معدوم، وأن الزَّمان مفقود، وأن المستقبل مجهول، الدَّاخل إلىٰ غزة كالدَّاخل إلىٰ حتفه، والخارج منها متلبِّسه الندم من جهةٍ، ومعتنقه الهاجس والكابوس من أخرىٰ.

- يا عمو الخيمة بعيدة كيف راح أشيلهم؟
- بدك تدبر نفسك يا عمو.. شفت هذيك سلَّة، اربط فيها الحبل هاذ، واسحبها لحدِّيت الخيمة، ما في هون حدا يساعدك.
- طيب المشكلة كمان في علب الماي هاي اللي شايلهن.. يالله!!
- لو عندي مجال كنت شلتهن يا عمو بس الدنيا زحمة هلقيت.

تحامل عمر علىٰ نفسه، وانكفأ إلىٰ جهده وكدِّه كما هو دأبه منذ بدء الحرب، وتحديداً منذ أن كبُر وشاب رأسه. ما شاب شعره علىٰ سبيل المجاز، وما كان هذا البياض الَّذي كساه من رماد النِّيران والقصف، أو بسبب زذاذ الحجارة، بل هو المشيب بحق. وقد يحسبه الرَّائي من بعيد وهو يجرُّ السَّلَّة بعد إذ ربطها بحبلٍ أن هذا البياض هو شيءٌ من الطَّحين الَّذي من نصيبه!

جرُّ السَّلَّة مع هذا الحمل أصعبُ من القصف بذاته، إذ أنت مجبرٌ علىٰ طقس قيِّظ الحرارة، رمِض الحرورة. وليس جرُّ السَّلَّة بأخفَّ حملاً من حمل الأغراض فوق الرَّأس! إلَّا أنَّه تذكر وصيَّة أمِّه ألَّا يحمل غرضاً أثقل ممَّا يقدر كي لا ينكسر ظهره كما حدث لأخيها (أي خاله) الَّذي قضىٰ نحبه شهيداً في معارك الشُّجاعيَّة. الأمرُ الآخر أنَّه يخاف من إذا ما حمل الأغراض، أن ينخرم كيس الطَّحين، ويذهب جزءاً منه، وهُم -لعيشكَ- بأمسُّ الحاجة إلىٰ الذَّرَّة فكيف بربع كيلٍ أو حتَّىٰ خُمسه!

يجرُّ عمر السَّلَّة وها هو يرىٰ صاحبه الَّذي حمد الله أنَّه مازال حيَّاً يُرزق وإن فقد عائلته بأسرها فانتقل إلىٰ العيش مع ابن عمُّ أبيه إذ ما بقي أحدٌ أقرب إلىٰ أبيه وأمِّه منه، حيَّاهُ بيدٍ حتَّىٰ واراه الرُّكام مُبتعداً، ثمَّ وإذا بالحبل ينقطع، فاضطُّرَّ إلىٰ ربط الاثنين ببعض، واستمرَّ بجرِّها، ثم انقطع ثانيةً، ولكن مع هٰذا الانقطاع الثَّاني سقط شيئاً من الطَّحين لسرعته حينها.. هذا ممَّا تعلَّمه في المدرسة عن قوانين نيوتن: الجسم السَّاكن يبقىٰ ساكناً، والجسم المتحرِّك يبقىٰ متحرِّكاً ما لم تؤثِّر عليه قوَّة خارجيَّة. ولكنَّه حين رأىٰ الطَّحين يسقط شتم نيوتن.. نيوتن أو غيره لا يهم من كان، كان قد أحبَّ أن يشتم في تلك اللَّحظة، قد وجد في الشَّتائم الَّتي أطلقها تهويناً وترويحاً للنَّفس، إذ لا يملك الآن وحتَّىٰ سابقاً غير لسانه يطلقه فيما يريد، وعلىٰ أن أخاه حمزة كان يؤنِّبه علىٰ صنيعه ذاك؛ إلَّا أنَّه ما طفق يعصيه، وما أبه لذلك علىٰ شوقه له، كان يرىٰ فيه الرَّجل الصَّالح، أحبَّ كثيراً أن يغدو مثله، أن يفرُغ من درسه في الجامعة فيتوجَّه إلىٰ حلقات المساجد يتعلَّم دينه، ويحفظ كتاب ربِّه.. غير أن عمر يميل بصورةٍ غريبةٍ إلىٰ لعب الكرة أكثر، تُصارعه نفسه علىٰ هذا وذاك، ولكنَّ يرجح في آخر المطاف علىٰ كفَّة اللَّهو واللَّعب، يقول: يكفي من عائلتي أن يكون حمزة لنا فخراً.

أحياناً تباغت المرءَ الحياةُ بشتَّىٰ النَّوازل، وبأصنافٍ من المتاعب يصير فيها كثير النَّدم إلىٰ أفعال وَدَّ من سويداء قلبه لو التزمها، إذ ينشغل في آنه هذا بأمورٍ لا يجد فيها وقتاً حتَّىٰ للحنين!

أرجع عمر كيس الطَّحين إلىٰ السَّلَّة، وزمزم بعض ذرَّات الطَّحين إلىٰ الكيس، وقد احتكَّ فيها شيءٌ من التِّراب، قال في سرِّه: رُبَّما استعرتُ من جيراننا في الخيم المجاورة غربالاً نُصفِّيه من شوائبه. نفض ملابسه، وقام ثمَّ قال موجِّهاً عيناه إلىٰ بقايا الطَّحين المتناثر علىٰ التُّراب بصوتٍ جهور: نصيبُ الأرض من الطَّعام!

واستمرَّ في سيره، يجرُّ السَّلَّة والشَّمسُ رابضةٌ في كبدِ السَّماء، ولهيبها أعتىٰ من صواريخ الـF16. وكلَّما لاح في خاطره عارضُ اليأس، أو السُّكون قليلاً للرَّاحة تذكَّر إخوته الَّذين ينتظرونه وقد تضوَّروا الجوع منذ ثلاثة أيَّامٍ يرقبون حصَّتهم من الطَّعام. وبينا انشغل تفكيره في ذلك، ارتطمت السَّلَّة بحجرٍ جلمودٍ أركم، فسقطت علب الماء، كانت إحداها مفتوحةً فاندلقت علىٰ الأرض، أراد لحظةً أن يجمعه ولكن كيف؟ هل يُعاد الماء إذا اهُرِقَ؟ وهل يُصلح الزُّجاج إذا انكسر؟ وهل يثق أهل غزَّة بعدُ بالعرب وقد خذلوهم؟

أرجع عمر العلب إلىٰ مكانها، ثم انتفض قائماً وهو يشتم هٰذه المرَّة أنشتاين؛ أولاً لأنه يهودي، وثانياً لأنَّه كان يلتبس عليه الأمر حين يذكره ونيوتن، فيظن الأوَّل هو الثَّاني والثَّاني هو الأوَّل! ثم قال بقول سموع: نصيبُ الأرض من الماء!

واستمرَّ في مسيره الطَّويل، أحسب أنَّ ذو المئة كيلو لو سار في هذا الطَّريق لسبعة أيام لوصل إلىٰ السَّبعين من وزنه، ولو سرىٰ فيه يوصين بولت لارتكز علىٰ عصاته بعد حين. وما العمل وقد توقَّفت الحافلات عن رحلاتها، ليس فقط لانقطاع البنزين إذ يعوَّض بزيت الذُّرة؛ ولكن لموت سائقي الحافلات، يظنُّ النَّاس أن الحيَّ في غزَّة أكثر حظَّاً من الميِّت! يا للسُّخف..

واصل طريقه، وها قد بدت الخيم تلوح في الأُفق، قد قارب علىٰ الوصول، غير أنَّه شعر أن بعض الخيم قد نقصت، أم أن ذاك لقصر قامته، قطع الخيمة إثر الخيم، يريدُ الخيمة الَّتي ترك فيها أخوته، ولكن الغريب أن هناك تجمُّعاً علىٰ غير العادة! هل صارت المساعدات تُقدَّم بالقُرب!

اخترق الازدحام، وسار يقتحم الخيم أكثر فأكثر، وما إن وصل حتَّىٰ سقط أرضاً علىٰ ركبتيه، وجدهم، نائمون بلا خيمة، نائمون بلا أرواح، ولا حتَّىٰ أيادي، والدِّماء تسيلُ من جنباتهم.. ريم بثوبها المهترء الَّتي خاطته من بقايا ثياب أخواتها وأمِّها، وسعد وباسل والألعاب في حضنيهما. مكث هويناً يسمع أصوات النَّاس مختلطةً ببعضها، لا يُميَّز واحدها معنىٰ أو فهماً. أغمض عينيه، ثم تنهَّد شيئاً، وقام علىٰ رجليه، ثم قال بصوت خفوت: وهذا نصيبُ الأرض من الدِّماء!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١