الحضارة الغربيَّة؛ جوفٌ خاوٍ
هٰذا عصر اضمِحال الديموقراطيَّة، وانتفاء اللِّيبراليَّة، والفردانيَّة الَّتي سيطرت حيناً في الغرب.. ومازلتُ أعجبُ ممَّن بقي علىٰ ولعه بنظام الغرب في الحكم، وذاك التَّمسُّك الشَّديد بمظاهر الحُرِّيَّات المزعومة، وهٰذه البهرجة الإعلاميَّة في تزييف انتخاباتٍ ظاهرها العدالة والحقُّ وحرِّيَّة الاختيار، وباطنها الظُّلم والباطل والاجبار! فلَكُم أن تُلقوا نظرةً علىٰ نظام الانتخابات في الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة في اختيار رئيسٍ للدَّولة، كيف صنعوا من ذلك انتخاباتٍ أقرب للصِّوريَّة منها إلىٰ الحقيقة. وكيف تُبصِر رأسين متنافسين علىٰ منصب الرِّئاسة يتحدَّىٰ الأول نظيره من هو أقربُ للتَّصهين من صاحبه، وذلك بدلاً من إبراز حلولٍ للمعضلات الَّتي تعصف ببلادهم!
أعني برغم كلٍّ تلكم المظاهرات الَّتي خرجت في الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة وجامعاتها؛ طلَّاباً وأكاديميِّين، وكذلك نظيراتها في الدُّول الأوروبِّيَّة تنديداً بالمجازر الصُّهيونيَّة والمطالبة بوقف إطلاق النَّار؛ لازلنا نرىٰ الدَّعم المُستميت من حكومات تلك الدُّول للصَّهاينة! فمر سرُّ هٰذا الشَّكل الغريب من الحكم؟ فإن كانت تلكم الجماهير الَّتي خرجت واعتصمت تُطالب بحق الفلسطيني في أرضه؛ فكيف نُبصِر برلمانيِّين غربيِّين وأحزاباً كبرىٰ ما وصلت إلىٰ الحكم إلَّا بصوت الشَّعب يتسابقون لإبراز دعمهم للصَّهاينة؟ ألم تكن الدِّيموقراطيَّة تعني حكم الشَّعب؟ أوليست فحواها حول حكم الأكثريَّة؛ إذاً كيف يستقيم هٰذا النِّظام في الحُكم؟ كيف وصلوا إلىٰ سدَّة السِّلطة وهم يعارضون رأي ناخبيهم؟
فإن كانت هٰذه ديمقراطيَّةً عوجاء جوفاء؛ فَلِمَ بعيشكَ أرىٰ أُناساً من بني جلدتنا جعلوا من الوسيلة (الَّتي هي الدِّيموقراطيَّة) غايةً بذاتها، وليست إنَّما طريقاً كسائر الطِّرُق تُعبَّد لغاية سياسة الشَّعب بما يحفظ عليهم حقوقهم ويقيم واجباتهم؟ وإنَّما أحسبهم سلكوا مسلك التَّقليد الأعمىٰ، واتِّباع سنن المتغلِّب، واقتداء نحلته ومشربه دون الرُّجوع إلىٰ ميزان العقل والحكمة، والموازنة بين مصالح الشِّيء ومطالحه، والتبصُّر في منفعته ومضرَّته. يُبَوِّبُ ابن خلدون في مقدِّمته باباً بعنوان: «الفصل الثَّالث والعشرون: في أنَّ المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب؛ في شعاره وزيِّه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده»، يُعزي ذلك رحمه الله إلىٰ: «أنَّ النَّفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إمَّا لنظره بالكمال بما وقَرَ عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنَّ انقيادها ليس لغلبٍ طبيعيٍّ؛ إنَّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطَت بذلك واتَّصل لها اعتقاداً= انتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه -والله أعلم- من أنَّ غلب الغالب لها ليس بعصبيَّةٍ ولا قوَّة بأسٍ؛ وإنَّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب».
ومبادئ الغرب في الدَّولة الحديثة أحسبها كلُّها قد انتهت، وصارت أثراً بعد عين، سكوتهم عن استهداف مشفىٰ الشِّفاء والمعمداني، وقبل ذلك عن استهداف مشافي سوريا من قبل الرُّوس والنِّظام جلب عليهم من الويل؛ أن تفرعن بوتين وقصف مشفىًٰ في أوكرانيا= أي سهَّلوا قصفه لسكوتهم! ولو اعترضوا وفرضوا عقوبات لردع الصَّهاينة في فلسطين، وبوتين في سوريا والشِّيشان؛ لما تجرَّأ بوتين وغيره مستقبلاً علىٰ تجاوز الخطوط الحمراء من استهداف المنشآت المدنيَّة والمدارس والمشافي. ولكنَّك ترىٰ قول شيخنا الطِّريفي فكَّ الله أسره قد نبع من دمك لشدَّة ما وافق الحقَّ: «الدِّيموقراطيَّة الغربيَّة صنمٌ من تمرٍ تصنعه الشعوب بأيديها، فإن نفعهُم؛ عبدوه، وإن أجاعهُم؛ أكلوه. ولا يصلح العباد إلا حُكم ربِّ العباد ﴿إنِ الحُكمُ إلّا لِله﴾».
كذٰلك من مبدأ الحرِّيات بمنع ألمانيا لشَارَة المثلَّث الأحمر لارتباطه بحركة حماس وسماحها بشارات تدلُّ علىٰ الحروب الصليبيَّة إنَّما صورةٌ لشكل هٰذه الحرِّيَّة الهُلاميَّة، تُعجَّنُ بالشِّكل الَّذي يرضونه. وتُتسخدم مبادئ الحرِّيَّة وحقوق الإنسان أدواتاً تُسلُّ بوجه الأنظمة الَّتي رُبَّما تخرج عن عصا الطَّاعة، فتُهدَّد بها، ويُحاكَم قادتها علىٰ أشياء لو وُزِنت بما صنعوا من قبل لكانت أهون البلايا، وأخفَّ الرَّزايا. خذ مثلاً تدخُّل الأمريكان للإفراج عن آية حجازي في وقتٍ ترتع فيه حرائر مصر في غياهب السِّيسي، ولمَّا حاسبوه علىٰ قضيَّة جوليو ريجيني وملابستها في خضمِّ القتل العشوائي للمدنيِّين في سيناء بتهمة داعش! الأمر ذاته يسري علىٰ قضيَّة خاشقجي، فعلىٰ حُرمة الدَّم إلَّا أنَّك لو وازنت عقلك لوجدتَ أنَّ هناك ما هو أعتىٰ جرماً منها لم يُحاسب المُجرم عليها!
أكتبُ هٰذا وقد ضحكت علىٰ امرئ استنكر قول آخرٍ يُنادي بذبح الأسرىٰ اليهود انتقاماً لدماء أهلنا في غزَّة.. يقول: هل تريدُ أن ينظر العالم إلينا علىٰ أنَّنا إرهابيُّون!
أعماهم الله وأعمىٰ بصرك كما أُعمِيَت بصيرتك.
تعليقات
إرسال تعليق