السيِّد أسد

 



لا يكلُّ الرَّئيس التُّركي رجب طيِّب أردوغان ولا يملُّ في كلِّ محفلٍ يشهده من ترديد ذات الاسطوانة من التَّصريحات حول تطبيع العلاقات التُّركيَّة-السُّوريَّة، آخرها كان في اجتماع حلف شمال الأطلسي الناتو في العاصمة واشنطن، والاحتفال بمناسبة مرور ٧٥ عام علىٰ إنشاء الحلف، إذ قال فيه أنَّه وجَّه أمراً إلىٰ وزير خارجيَّته هاكان فيدان لعمل مباحثات مع نظيره فيصل المقداد وزير خارجيَّة نظام النُّصيريَّة البعثي من أجل تطبيع العلاقات بينهما.

رُبَّما تساءل البعض عن المنفعة المرجوَّة من نظامٍ لا يُسيطر إلَّا علىٰ العاصمة دمشق، وليست سيطرةً كاملةً، إنَّما جزئيَّة، وآخر هٰذه السُّخريات، أن هٰذا النِّظام اعتقل امرأةً من بلدة إنخل في محافظة درعا، ما دفع أهالي البلدة إلىٰ شنِّ هجماتٍ مسلَّحة علىٰ مراكز تابعةٍ لمؤسَّسات النِّظام العسكريَّة والأمنيَّة، واعتقالِ ثُلِّةٍ غير قليلٍ من رجالاته مقابل إطلاح سراح تلك المرأة.. وهو ما حدث بعد بضع ساعاتٍ من اعتقالها. هٰذا الحدث يُعطيك صورةً أو لمحةً عن ذاك الوضع.

يقول البعض: نظامٌ مُترعٌ بالعقوبات، مليءٍ بالفساد، مُنهشٌ بالمخدَّرات، تتزعَّمه عصابات كيف يُرتجىٰ منه حلَّ كلَّ تلك الأزمة الرَّاهنة؟ لاسيَّما وأن هناك أنظمة عربيَّة طبَّعت معه ولٰكن ما استجدَّ له خيرٌ من ذٰلك، بل العكس فقد زادت شرور النِّظام وتعنُّتاته، فالأردن مثلاً طبَّعت منذ ٢٠١٩م أملاً بتوقُّف تجارة تهريب المخدَّرات؛ ولم تتوقَّف. والسعوديَّة طبَّعت في العام المنصرم أملاً بتوقُّف تجارة المخدَّرات، والوصول إلىٰ حلٍّ سياسيٍّ سلميٍّ وفق القرار ٢٢٥٤ الَّذي أصدرته الأُمم المُتَّحدة وصُوِّت عليه في مجلس الأمن؛ وما تحقَّق شيء.. فما النَّفعُ من هٰذا التَّطبيع؟

لا نعيب علىٰ تركيا اتِّخاذ خطواتٍ تحفظ فيها أمنها القومي، ولسنا نُطالب بأردوغان وحزبه أن ينصروا قضيَّتنا، ولا ابن سلمان ومملكته، ولا ابن حسين ودويلته، ولا ترامب أو بايدن وناتوِّه، بل نعيب علىٰ أنفسنا أن سلَّمنا رقابنا للغريب، ورهنَّا سلاحنا للبعيد والقريب، فجعلنا مفاتيح معاركنا بيد الدَّاعم؛ إن شاء أطلق سهامنا، وإن شاء براها في مخباتها، وإن أراد أفرج عن سيفنا، وإن لم يُرد أعاده إلىٰ غمده.

بحسب منظَّمة الأُمم المتَّحدة، وباعتراف أغلبية دول العالم؛ فنظام النُّصيريَّة البعثي في دمشق هو الدُّولة، وحكومته هي الحكومة الشَّرعيَّة، لا المؤقَّتة، ولا الانقاذ، ولا الإدارة الذَّاتيَّة. فأي جوازٍ لا يصدرُ بختم دمشق ليس مُعترفاً به، وأيُّ اتِّفاقيَّةٍ ليست ممضيَّةً بختم دمشق ليس مأبوهاً إليها، وأيُّ اجتماع لا يحضره ممثِّلٌ لدمشق عن سوريا فليس اجتماعاً مثَّلت فيه سوريا. هٰذا هو النِّظام العالمي شئنا أم أبينا.

تركيا ما كان دخولها بعتادها وسلاحها إلىٰ شمال سوريا منذ بداية الثَّورة وحتَّىٰ قبل الثَّورة إلَّا بسبب هجمات حزب العُمال PKK واشتقاقاته، إذ مطلع ١٩٩٦م قدمت تركيا إبان عهد سليمان ديميريل تحذيرات للنظام النُّصيري البعثي أيَّام حافظ الأسد بضرورة التَّوقف عن دعم حزب العُمَّال PKK، وإلَّا فإنها ستُضطَّر لاتِّخاذ ما يلزم لحفظ أمنها القومي. وفي ذات العام حشدت أنقرة قوات كبيرة علىٰ حدود البلدين، مهددُّةً باجتياح شمال سوريا إذا استمر النِّظام في توفير ملجأ آمن لأوجلان زعيم حزب العُمَّال PKK. تبع ذلك تهدئةً برعاية مصر وإيران وجامعة الدُّول العربيَّة، فكانت اتِّفاقية أضنة الَّتي وُقِّعت بين البلدين، والَّتي تُخوِّل تُركيا بدخول الأراضي السُّوريَّة لتحمي أمنها القومي بمسافة ٥ كيلو، وكذلك تسليم عناصر حزب العُمَّال PKK إلىٰ الجاني التُّركي.

إذاً فما كان هدفها يوماً إسقاط النِّظام، رُبَّما نعم التقت مصالح تركيا مع الثَّورة السُّوريَّة، بسبب دعم النِّظام المُستمر لحزب العُمَّال PKK واشتقاقاته في سوريا، وما عملية غص الزيتون ونبع السلام ودرع الفرات إلَّا لمحارب التَّنظيم لا النِّظام. أمَّا سبب التَّطبيع ذلك أنَّه كما أسلفت لا يمكن لتركيا شن غارات علىٰ مواقع قسد التَّابعة لتنظيم PKK و PYD إلا من ناحية حفظ أمنها القومي بحسب ميثاق الأمم المُتَّحدة، وهٰذا ليس كافياً بسبب امتناع الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة عن السَّماح بشن تركيا لعمليَّاتها، ولٰكن إذا ما طبَّعت تركيا من علاقاتها مع نظام النُّصيريَّة البعثي، ومن ثم توسيع مدىٰ اتِّفاقيَّة أضنة ليتسنىٰ لتركيا دخول الأراضي السُّوريَّة بصورةٍ قانونيَّة حتىٰ أربعين كيلو وإنشاء منطقة آمنة كما هو الحال في شمال العراق والاتِّفاقية الَّتي عقدتها مع الحكومة الاتِّحادية في بغداد وحكومة الإقليم في أربيل، فشنَّت هجمات متتالية علىٰ مواقع التنظيمات في دهوك ونواحيها، بل وأنشأت نقاط وقواعد وسيطرة حتَّىٰ ميدانيَّة.

هٰذا من جانب، ورُبَّما كان الجانب الآخر هو الضَّغط علىٰ الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة لقبول العمليَّات التُّركية علىٰ مناطق قسد، ألَّا تُطبِّع تركيا مع النِّظام. أمَّا مسألة تسليم تركيا مناطق الشَّمال فهو ما تعلمه الحكومة التُّركيَّة أنَّه داءٌ لا دواءٌ للمشكلة، فتسليمها يعني اشتعال فتيل الحرب من جديد بعد الهدنة المُستمرَّة منذ ٢٠١٨م، وبالتالي حصول موجات لجوء إضافية مُرهقة لتركيا ومن ثمَّ لأوروبا. ومثله كذٰلك ترحيل السُّوريِّين إلىٰ مناطق النِّظام فهٰذا أشبه بالمستحيل، إذ أن تواجد السُّوريِّين في تركيا ينطوي تحت مظلَّة وضع الحرب وقانون اللَّاجئين، ومناطق النِّظام مازالت تحت خط الحرب.

لو كان تطبيع العلاقات التُّركيَّة-النُّصيريَّة مُنقذاً للأسد لأنقذته الصِّين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، أو روسيا أو حتَّىٰ جامعة الدُّول العربيَّة. هٰذا التَّطبيع لا ينهي الحرب، ولا يحلَّ شيئاً.. القرار بيد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، بيدها فحسب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١