مكارم الأخلاق؛ صبرُ ساعة، واختبارُ ساعة




النَّاس معادنٌ، تختبر أصالة بعضها من رداءتها حين تُمِرُّها علىٰ صفيحٍ ساخنٍ، يُستبان لك عندئذٍ خامة هذا المعدن، فتأخذه أو تدعه. وهذا الصَّفيح في لسان حالنا نعني به مُهمَّات الأمور، ومُلمَّات المسائل، يوم تختبر النَّاس في الصِّعاب، فيسقط البعض وينجح آخرون. وإنَّك لتلحظ الشَّعث الأغبر في حاله، فتُسيء به الظَّنَّ، وتراه تافه المنطق، سفيه المُحيَّا، لا تملك من نفسكَ إلَّا أن تسخر من بساطته المجحفة؛ فتجدك منبهراً يومَ ساعةٍ عَسِرةٍ استنجدتهُ فأنجدك، واستعنتهُ فأعانك، واستطلبتهُ فلبَّاك. بصورةٍ موازيةٍ معاكسةٍ متضادَّة، ترىٰ الفارع الطويل المهيب، ذاك الذي لو ظننتُ أنَّه لو أراد بلوغ الجبال طولاً لفعل، ولو أراد أن يخرق الأرض لخرق، له من المهابة من تحسبه يُستعصم به الجيش العرمرم، ومن العزَّة ما تأوي تحت رايته ملوكٌ وأكاسرة، ومن المنعة ما تستجيرُ به دولٌ وممالك؛ ثم حين تطلبه لا يُلبِّيك، ولا يُنجدك، ولا يُسعفك، قد خسر في ميدان الحاجة، وسقط في ساعة الاختبار.

كذا من الأمر إن تُسريه علىٰ الكرم والجود والعطاء، تُبصر سليل الغنىٰ، وهرم الثَّراء قد استجاد بماله حدَّا تحسبه لو اكتفىٰ بعُشر ما أنفق لدام عليه رزقه أربعين ربيعاً، ولو اكتفىٰ بما وهب لسرىٰ صيته لولده السَّابع. هذا الفعائل يا نجيِّي من بُعيدٍ تحسبها جوداً وكرماً، وهي رُبَّما كانت بحقٍّ وحقيقة، ولكن أما سألت نفسكَ لو كان صاحبنا هذا قد وُضِع موضع الحاجة، ورىٰ ملكه قد انهدم، وغناه قد انفقد، وعزَّه قد انخلىٰ أتراه يجود بما جاد به؟ أتراه يُؤثِرُ أحداً بما عنده؟ عند تلكم اللَّحظة فحسب ينجلي أمره علىٰ الحقيقة، ويظهر كرمه ويُمتحن به، فإن ثبت عند فقره علىٰ شيمته= فهذا ديدنه، وإن تغيَّر فهو جديدٌ طارفٌ، ما خشي الفقر بإنفاقه= فما امتنع.

ولحظتُ في نفسي أن أستبين معنىٰ مكرمةٍ من مكارم العرب، إذ جعلتني أقرأُ في سيرة الصَّالحين، فلارىٰ صفةً أحببتُ أن أمتثلها، ولا نعتاً وددتُ أن أوصمَ به أكثر من صفة «الحِلم والأناة». وكنتُ أقول أنِّي قد التمستُ بعضها وأنا في داري منعزلٌ عن جملة النَّاس إلَّا قلَّةٌ من الصُّحبة، منطوٍ عنهم إلَّا فُسحةً، منزوٍ عنهم سالٍ عن مخالطتهم. فلمَّا خالطتُهم وجالستُهم وصاحبتُهم بان أنِّي دربي طويلٌ موحشٌ، مُفقرٌ مُدقعٌ، ليس فيه من الرَّاحة إلَّا النزر اليسير الذي لا يُبصر، فوجدتُني أُجاهد نفسي أن أسير في ركب الأحنف بن قيس، وفي قافلة قيس بن عاصم، وفي رحل معاوية بن أبي سفيان. أجد واحدهم بلغ من الرَّويَّة ما تحسبه بروداً ليس أناة، ومن الهدوء ما تظنُّه جُبناً لا حِلماً -حاشاهم-. ثم تستنجد من فعائلهم صورةً تُغزلُ في مخيِّلتك ساعة الاختبار، فتتجالدُ علىٰ تجمَّل شعث المكارم أملاً أن تنال من صيتهم نصيباً أو جزءاً من جزءٍ من نصيبهم.

قس مكارم الأخلاق علىٰ هذا المنوال يا نجيِّي، وانظر رأيكَ في كلِّ مكرمةٍ علىٰ ميزان الاختبار، فلا تحسبن نفسك قد استُوهِبت صفةً وخُلُقاً في يوم الرَّاحة والدَّعة، إنَّما منازل الرِّجال عن ساعاتها، ألم ترىٰ العرب تقول: ‏‎”الشَّجاعة صبرُ ساعة“. وحين أوصىٰ سعيد بن العاص بنيه، فقال: ‏‎”لو أن المكارم كانت سهلةً؛ لسابقكم إليها اللِّئام، لكنَّها كريهةٌ مرَّةٌ، لا يصبرُ عليها إلا من عرَفَ فضلها“، وهو الذي كان بينه وبين قومٍ من أهل المدينة منازعة، فلما ولَّاه معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- المدينة ترك المنازعة، وقال: ”لا أنتصر لنفسي وأنا والٍ عليهم“، كما جاء في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح. قال ابن عقيل في كتابه الفنون: ”هذه والله مكارم الأخلاق“.

إنِّي لتطربني الخِلالُ الكريمةُ
طربُ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقي

وتهزني ذكرىٰ المروءةِ والندىٰ
بين الشَّمائلِ هزةَ المُشتاقِ

فإذا رُزقتَ خليقةًَ محمودةَ
ففد اصطفاكَ مُقسمُ الأرزاقِ

فالنَّاسُ هذا حظهُ مالُ وذا
علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١