الذِّكرىٰ

 

أسنحت لكِ الفرصة أن مررتِ بلحظةٍ خاطفةٍ، استذكرتِ فيها أياماً خلت، كانت عصيبةً عليكِ، فاجعةً لذهنكِ، مُؤرِقةً لعينكِ، مُرجفةً لقلبكِ، فجعلتِ تشكرين ربَّكِ إذ تستحضرينها، وتحمدينه علىٰ نَعمائه أن هيّء لكِ تلكم الهُنيهة لتشكرينه؟ هذا والله نعيمٌ لا يُدركه إلا من رحم ربِّي، ولا يسعُ كلَّ امرئٍ أن يهتدي إلىٰ مثله. إنَّ النَّاس ذاكرتُهم مثل ذاكرة حيتان البحر¹، لا تستقيم لهم جزالةً أبعد من أيامٍ معدودة، فتراهم وقد غشيتهُم سحابة الرَّحمة والنِّعمة، وعمَّهم ظِلال الخير والرِّزق الوفير، كأنَّهم نسوا ما كانوا هم فيه، وعاجلتهم ضربة النِّسيان والسّهو عن استذكار عطاء الله ومنّه وجوده وكرمه، وعالجهم شقاوة أنفسهم أن يتواضعوا إلىٰ خيرٍ قسمه الله لهم وقدَّره عليهم بما يناسب حوائجهم فكان لكلٍّ نصيبه وقسمته المُستحقِّ لها!

إنَّ النِّسيان يا حَوراء أكدَّ ما علىٰ النَّفس! هل ترين إلَّا أن عناء النَّاس في تغيُّب ذكر لحظة الفرح عنهم يوم التَّرح، وانطفاء لحظة ترحهم عن بالهم يوم فرحهم، فيظنُّون أن دوام حالهم هو سنُّةٌ الدُّنيا التي لا مناص منها، ولا شكَّ في استمرارها ومداومته؟ ولَكَم تُذهب بلُبِّي قصَّة الملك الذي أمر وزيره أن ينقشَ له علىٰ خاتمٍ له عبارةً: تُفرحُهُ آن حزنه، وتُحزنُهُ آن فرحه. فنقش الوزير: ‏‎”هذا الوقت سيمضي“.

نعم، هذا الوقت سوف يمضي، وإن مضيِّه بعد حينٍ، يَذكرها المرءُ بلواعج الحنين المستمرِّ، وبتلكم البسمة الضاحكة علىٰ وجهه، وكلِّ ذاك التشوُّق الممزوج بالسخريَّة. إنَّ ذاك ما يأمُّلني يا حَوراء.. أنِّي أتخيَّلُني بعد أن أفرغ من فترتي هذه القصيرة، لأجدني حينها أسخرُ من نفسي في آني هذا، وأستميتُ ضحكاً من كلِّ هذا القلق، ومن كلِّ هذا الاضطراب، ومن كلِّ هذا التَّوتُّر. يُسعفني التَّفكير علىٰ تلكم الشاكلة، يزرع في النَّفس شعوراً حسناً، وطبعاً جميلاً هنيئاً رطباً، فيزيل عنك من غبار الحياة، ووعثاء الدِّنيا، وصخب العيش، وسخط المعايشة.

أتذكُّر كم من أمورٍ جلبت عليَّ أسقاماً من التَّفكير الزَّائد، وكانت إرهاصتهُ عليَّ أن شغلت ذهني شوطاً، وبان علىٰ مُحيَّاي شيئاً منها ولو جهدتُ ما وسعني جهدي في إخفائها، ولو سعيتُ ما سعيتُ في كفرها عن النَّاس خشية التمظهُرِ في عيونهم بصورةٍ الضَّعف والوهَن، متمثِّلاً بقول الشَّاعر:
وإن تسأليني كيفَ أنتَ فإنَّني
صبورٌ علىٰ ريبِ الزَّمانِ صعيبُ

حريصٌ علىٰ ألَّا يُرىٰ بي كآبةٌ
فيشمتَ عادٌ أو يُساءَ حبيبُ

ثم انقضت بصورةٍ حسبتُ أنِّي ما أُدرِكها يوماً لشدَّة عنتها عليَّ، ولكبَدِ حملها المرهقِ علىٰ نفسي، وغمِّها علىٰ روحي، بحملٍ أخفَّ من الرِّيش، وأنعم من الحرير، وبخطفةِ بصرٍ أو هي أقرب. لقد انقضت وجاء ما بعدها وانقضىٰ، ثم ما بعده وانقضىٰ فما بعده وانقضىٰ.
ثُمَّ انقضَت تلك السُّنونُ وأهلُها
فكأنَّها وكأنَّهُم أحلامُ

فاذكُري لحظات عمركِ تلك يا حَوراء بصورةٍ الحمد القابل في عمركِ، القادمِ في حياتكِ، أن تأتي وتذكريها حنيناً وتشوُّقاً. واعذري من خانهُ لسانه.

ــــــــــــــــــــــــ
¹: أعني بالحيتان: السّمك، يقول الله ﷻ علىٰ لسان غلام كليمه ﷺ: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ الكهف: ٦٣.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١