حفظتُ شيئاً وغابت عنِّي أشياءُ.. أشياءُ جمَّة
هل كنت أحسبُني منذ آخر مساءٍ في شهر كانون الأول من عام ٢٠١٩م سأجِدُّ في علياء العلم بعد أن جعلتُ لنفسي منهجاً أقوِّمُ به نفسي في القراءة والاطِّلاع والنَّهم من الكتب والعلم، فأفرغ من وعثاء الدُّنيا ومُتعِها، وأركنُ إلىٰ مجدِها وسناها، حتىٰ يأتي يومٌ أُسْأَلُ فيه أسئلةٍ في شتّىٰ المجالات، من أناسٍ حولي أطنبوا في مدحي، جاوزوا فيه الحدَّ إلىٰ ما بعده، فأطروني، وأعلوني عن مقامي الأسفل، إلىٰ شأوٍ لستُ له أهلٌ. وحتىٰ لو كنتُ كما زعموا -وما أنا حريٌّ بما زعموا ولا صاحب، وأنا من أنا من النَّقص في العلم مقاساً- فلا أراني فيه كلَّما اكتلتُ منه زيادةً إلّا وجدتني حيراناً لنقصانه. فكأن كيسي الذي أتعلَّم منه مخروقٌ غير مُرقَّعٍ، فما أملؤه إلّا نفد، وما أُتمِّمه إلىٰ نصفه حتىٰ يخور إلىٰ عُشرهِ.
هبني قنِعتُ بذلك، ورضيتُ بقسمتي التي أقسمنيها ربّي فكيف تُراني أشدُّ علىٰ يد من حولي أُحاجِجهُم بما هو حقٌّ لا يشوبه لبسٌ ولا مُريَة: لستُ كما تتخيلون! لستُ كما تزعمون! لستُ كما تظنُّون! أنا أضعف من بيت العنكبوت، وأضألُ من نملةٍ في قعر جُبٍّ في ليلةٍ مُحاقيَّةٍ سوداء فحماء، لا نور فيها يُرشد، ولا ضياء فيها يُبصِّر. يا أكارميّ، عطفاً عليَّ من كبرياء يمسُّني، ومن فخرٍ يتلبَّسني، أحسبني أهلكُ به، ولا يعيذيني منه إلا من استوىٰ علىٰ عرشه، وكان الكبرياء رداؤه، والعزَّة إزاره.. جلّ عُلاكَ، وسما اسمكَ.. سبحانكَ لا تقصم ظهري.
فلمَ يصنعُ النَّاس هذا بطلبةِ العلم؟ لمَ يحمِّلونهم فوق ما يحتملون؟ ولمَ يثقلون كواهلهم فوق ما عليه يصطبرون؟ ولمَ يودونهم المهالك والمجازع، ويرمونهم إلىٰ المصارع والفواجع؟
أجدني أُحسن الظَّنَّ فيهم فأقول: هذا والله حُسْنُ ظنٍّ بطالب العلم، إذ يرونه وقد جهد جهده في طلبه، وسعىٰ سعيه في نيله، فما يرون منه ذلك حتىٰ يبادروا إليه يستفتونه في كلِّ مسألةٍ، إذ حسبوه قد اطَّلع عليها حتماً، أو مرَّ علىٰ ذكرها مرَّةً فلا يشكُّون في جوابٍ منه يحوزونه. وإنَّ المُعضلة هاهنا يرحمك الله، أنَّهم قد أحسنوا الظَّنَّ زيادةً علىٰ ما يجدر بهم، فجعلوه سلطاناً للعلم، وواحةً للمعرفة، ودوحةً في الفهم، ونسوا أنَّه إنسانٌ من لحمٍ ودم، يعتاش علىٰ ما يعتاشون عليه، ويستسقي ما يستسقونه، ويستطعمُ ما يستطعمونه، ولا يطلب إلا ما يطلبونه. طلبَ العلم؛ فحاز بعضه، ومُنِع جُله. وإن هذا البعض لهو القليل الذي لا لو جَدَّ في طلبه غير واحدٍ من أقرانه أو سائليه لأدركوه كما فازَهُ، فليس هو بذي هِبةٍ عطيَّةٍ خُصَّ بها دوناً عمن سواه، أو امتاز بها عن غيره؛ إنَّما أمره كلُّ أمره أن أخلص النِّيَّة فيما أراد، فأوتيَه. ولو أخلصتَ أنت لما حُرمته.
علىٰ أنَّ هذا العلم كيف به يُغني امرأً شغل نفسه بها حتىٰ أطربه إطناب النَّاس فيه، وسَمَتْ نفسه لِما حَلُّوا نفسه بعين نفسه، وطَلَّوها فطار زهوّاً بخياله حتىٰ ظنَّ للمحةٍ أنَّهُ يخرق الأرض، أو يلبلغ الجبال طولاً. فلأزعمنَّ أن الشَّيطان في هكذا وجهٍ ليس وحده من أعان نفس الآدميَّ علىٰ التكبُّرِ والفخر، رُبَّما كان من مدائح النَّاس فيه نصيب. إذ يقول: رُبَّما كانت نفسي لي مدّاحةٌ لما هي فيَّ من الأثر، ورُبَّما كان تقريظ أمِّي لي من باب حنو الأمِّ علىٰ ولدها، وأنَّها تراه برغمِ قبحه أبهىٰ النَّاس وجهاً، وأجودهم نفساً، وكذا منه تمجيد الوالد لولده، ورُبَّما ثناء الزَّوج لزوجه، والولد لأبيه، والأخ لأخيه، أمَّا الأقران.. فهم أجدر النَّاس بالحسد، فإن أشادوا فقد أشادوا عن بيِّنة، وإن زكُّوا فقد زكُّوا عن علِّةٍ؛ فإنَّ إطراءهم إذ ذاك حقٌّ لا مراء فيه!
بلغ من صاحبنا هذا المبلغ حتىٰ صيَّر نفسه أعجوبة زمانه، وأمثوله عصره، فطغىٰ وتجبَّر، وقال: أنا أعلمُ النَّاس. فهلكَ لعمري.
يا ابن الأكرمين، ويا أخ الأجودين، حُبَّاً وكرامة لا تصيِّرني إلىٰ ما أسيرُ فيه إلا هلاكي. واقصد في ثنائك عليَّ، وأقصر في تزكيتك لي فإنِّي من النِّسيان سُمِّيتُ إنساناً، وإنِّي لا أزيدُ علماً في مسألة حتىٰ أنقُص في غيرها ثمانمئة. ولا أحوز من المعرفة جزءاً حتىٰ أعتاز مثلها مئة. واضْحَكْ منِّي يوم رفعتُ الحال! ويوم نصبتُ الصِّفة! ويوم جهلتُ أنَّ الحائض لا تقضي ما فاتها من الصَّلاة في حيضها.. وهذا مما لا يسع الجاهل جهله! ويوم خلط عليَّ جذر «البُنوَّةِ»، فجعلتني أمالي إداورد سعيد في إنكار هذه المفردة! ويوم ظنَّ البعضُ أنِّي أحفظُ سورة «البيِّنة» لا أُخطِأُ فيها، وأنا أكثرُ النَّاس لخبطةً بها! ويوم.. ويوم.. ويوم.. والأيام التي علىٰ شاكلةِ ما ذكرتُ كثيرة، لا تُعدُّ ولا تحصىٰ، حتىٰ أحسبني تركتُ العدَّ بعد اليأس منِّي ومن جهلي. ولستُ إلَّا كما قال الشَّاعر:
قل لمن يدَّعي في العلمِ فلسفةً
حفظتَ شيئاً وغابت عنكَ أشياءُ
عبدُ الله، الصَّغيرُ بغيره. الجاهلُ بنفسِه، الضَّعيفُ بذاتِه.. مُحمَّداً الأُمِّي
تعليقات
إرسال تعليق