قصّة قصيرة: عزّت عند صالون الحلاقة
لطالما كره الذهاب إلىٰ الحلّاق، لما يجده من إضاعة الوقت في غير فائدة، وقد كان في صغرهِ يكرهُ حلاقة قريبه الذي لا يُتقن الحلاقة إلا كما يفهم الرجل مشاعر المرأة. فكان في صِغره غير فكره في كِبره، وصار يودّ لو عادت به الأيام إلىٰ سابق عهدها ليحلق له قريبه ذاك، بدلاً من هذا الوقت الذي يذهب هباءً. قد أدرك حقيقةً قيمة الوقت المعروض بعد حين، وصار يُقدّره بأكبر مما يقدّر المال والعلم حتىٰ! يذهب المال ويُؤتىٰ بآخر، يذهبٌ علمٌ ويُستدركُ بمثله؛ أما الوقت فأنىٰ له به؟
حين ذهب إلىٰ الحلّاق، وجدَ حلّاقه الخاص غائباً، شعر أنّه إن قصّ شعره الآن عند غيره فقد خانه. علمتُهُ لو خان زوجه لما شعر بتأنيبِ الضمير كما هو مع حلّاقه! فصار يفكّر في المسألتين؛ أيقصّ شعره عند أيّ واحدٍ، أم يذهب إلىٰ غيره؟ وماذا يصنع إن علم صاحبه الحلّاق أنّه قصّ شعره عند غيره؟ كيف يبرّر له فعلته الشّنيعة تلك؟ وكيف يستقطبُ له الحُجج المُقنعة، والبراهينَ الدامغة التي يدفع بها ذنبه الذي سيقترفه! إن الأمر أعسر ممّا يتخيّل! دعك من تبرير الرجل لزوجه إن خانها، الأمر أشبه كذلك بالولد الذي فكّر في طريقه إلىٰ البيت بحيلةٍ يُميط بها غضب والده عليه إن تأخّر مساءً، أو أمّه حين تعلم بتدنّي درجاته!
استبان أمر صاحبنا «عزّت» علىٰ أن يتوكّل علىٰ الله، ويترك أمره له، ويقصّ شعره عند زميل حلّاقه. وقد رآه فتىًٰ غرّاً، يده طريّةُ المَلمس، باردةُ الشّكل، أشبه بيد عذراءٍ في خدرها، نؤوم الضحىٰ، فتاةٌ وُلِدت وفي فمها ملعقة ذهب! وقد شعر «عزّت» أنّ هذه رسالةٌ إلٰهيّةٌ بأن يبتعد عن فكرته هذه، وأن يعود إلىٰ بيته وينتظر زوجته.. أقصد حلّاقه حتىٰ يعود. وإن طال الأمر لزم بيته إلىٰ أن يأذن الله! ولكن ما يصنع؟ وهو مضطرٌ، مجبرٌ أخاك لا بطل، ولو كان في يده لاعتزل.
جلَسَ.. ووضع ذاك الحلّاق (الإلفي¹) غطاءً عليه وربطه، ثم أخذ آلة الحلاقة، وشرع يحلقُ «لعزّت». الأمر بدا غريباً للوهلة الأولىٰ! هذه الخيانة الحلاقيّة شعورها غريب، الأمر أشبه بأن تأخذ جنسية بلدٍ هي معاديةٌ لوطنك، ثم تذهب إلىٰ أبناء وطنك أولئك لتباهي أمامهم جنسيتك الجديدة! راح «عزّت» يُحلّق في خياله إلىٰ الصورة التي سيجابه بها حلّاقه حين يعود، ويستعرض السّبل المتاحة للردّ علىٰ الاتّهامات المبنيّة علىٰ الحُجج المنطقية التي تعلّمها في غير كتابٍ «لسُقراطَ»، «وأرسطو»، «وابن سينا»، «والفارابيّ»، وأخذ يرتّب لاستخدام المُغالطات المنطقيّة إن اُحتِيجَ إليها... قطعت سلسلة أفكاره آلة الحلّاق (الإلفي)، إذ ترك رأسه كلّه، وركّز علىٰ الجانب الأيمن الخلفي من رأسي، وراح يدعكه كما كان يرىٰ والدته تمسح النافذة التي علق بها شيءٌ من اللّوثة، أو كما كان يضرب «محمد علي كلاي» خصمه بعد إذ ناداه باسمه قبل إسلامه! غير أن «عزّت» خشي أن يومئ إليه بالتّروّي، ذاك أنّنا كما أسلفنا: أن الذي يحلق له يده أطرىٰ من العذراء النؤوم، وأخفّ من يد (الإلف)، والصالون مزدحمٌ شيئاً ما، وإنه لمن خوارم المروءة -كما ظنّ «عزّت»- أن يُشير عليه بتخفيف تلك الحدّة؛ فيُبان عند النّاس ضعفه وخَوره، وقلّة صبره وتحمّله!
يا لتعاسته، ويا لسوء حظّه، راح ينطلق في مخيّلته، يترآىٰ له حلّاقه القديم، بطريقته الحسنة الهادئة في الحلاقة، وكيف يقصّ له شعره كما لو كان «كالمتنبي» يُنشد قصيدته:
واحرّ قلباه ممن قلبه شبمُ
ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ
أو كما رسم «فان جوخ» لوحته ليلة النجوم، أو كما كان «لودفين فان بيتهوفن» يعزف موسيقاه، أو كما «ميسي» يراوغ نصف لاعبي الخصم بتعليق «عصام الشوالي» الذي أخذ يُعدّل في بيت «المتنبي» ليوافق واقع الحال مع «ميسي»، فيقول:
”أنا الذي نظر الأعمىٰ إلىٰ قدمي“
بدلاً من قوله:
”أنا الذي نظر الأعمىٰ إلىٰ أدبي“
وهو في خياله ذاك إذ يسرح ويمرح، ويتخيّل جِنان الحلاقة، وفردوس الصالونات.. فيقطع مرّة أخرىٰ الحلّاق الإلفي سلسلة تخيّلاته، إذ عاد بآلةٍ أخرىٰ وترك كل رأس، وتوجّه إلىٰ الجانب الأيمن الخلفي من رأس «عزّت»، وأخذ يحلق تلك المنطقة كما كان يحرث جدّه أرضه، بكل روحٍ وعزم، وكأنّ هذا الحلّاق الإلفي له مسألةٌ شخصيّة انتقامية مع هذه النقطة من الرأس، وكأنّه يحاول أن يثبت لمعلّمه في الحلاقة أنه أجدر النّاس في حرث تلك المنطقة.. أقصد حلق الشعر فيها.
عاد «عزّت» يجمح في خياله، ولكن حمداً لله لم يعد يحنّ إلىٰ حلاقه القديم، ودعونا نقل صاحبه القديم؛ إذ «عزّت» صار يُعطي قيمةً زائدةً لحلّاقه ذاك، الذي لم يعُد بعد، وكأنّه «ذهب مع الريح»، فصار شأنه شأن «سكارليت أوهارا»، وقد رأت أصناف الرجال فعرفت بعد فوات الأوان قيمة زوجها الذي تركها، فعزمت علىٰ الذّهاب إليه، واللّحاق به!
آهٍ يا أوهارا، لو تعلمين ما حلّ بي، ولو تعلمين شقائي لهان عليه ما حلّ بكِ في خضمّ الحرب الأهلية. ولو علمتِ ما صُنِع بي لأشفقت عليّ، ولقُلتِ: ما رأيتُهُ لا يُعادل ذرّةً من شقاء «عزّت» في حاله ذاك مع حلّاقه..
هكذا سرح «عزّت» بخياله، ثم انتبه قليلاً، وإذا بالسّماء تُمطر، وكأنه هطلٌ وابلٌ، وراح يستجمع مفرادات اللّغة الذي حفظها في وصف ذاك النوع من المطر، إذ قد أُعجب يوماً بتنوّع المفردات التي تصف حال المطر: من ندىٰ، إلىٰ طلٍّ، إلىٰ الرّذاذ، ثم القطر فالسّح، ثم النضح فالبغش، والدّث والرك والتسكاب وأخير الوابل.. ثم تذكّر للحظةٍ أن الصّالون مُغلقُ السّقف، وأن الغيوم لم تُستَجمع في هذه الفترة القصيرة زمنياً، فالجو حارٌ، والشّمس لاهبةٌ، والغيوم منعدمةُ الثّقل، هذا فرضاً لو كانت موجودة. فنظرَ بُرهةً وإذ بالحلّاق الإلفي، مُمسكاً بعلبة ماءٍ، يرشّها علىٰ رأسه! لم يعلم «عزّت» وقتها.. هل انتهىٰ حلّاقه هذا من حراثة الأرض فأخذ يسيقسها! أما شَعَرَ أن شَعْرَهُ قد عطِش فسقاه ليبردَ ظمأه، ويستبلّ ريقه، وتروتي نفسه.. أو ربّما بصلة رأسه!
لم يُطل «عزّت» التّفكير بهذه المسألة، وقد حسب لوهلةٍ أخرىٰ أنّه سيعود ليمسك الآلة، ويعود لنفس المنطقة (الجانب الأيمن الخلفي من رأسه) ليعاود حرثها.. لكنّ الحلّاق الإلفي فاجأهُ ثانيةً، وأخذ المِقصّ والمِشط ليأتي دور قصّ بعض أجزاء الشعر لا حلقها. ولم يمانع «عزّت» هذا، إنما ما استفزّه أنه شرع في قصّ شعره دون أن يجفّف بعض أنحاء رأسه من الماء الذي أخذ يتساقط علىٰ وجهه وأذنه، وعنقه وحوض العُنق، بصورةٍ ظنّ «عزّت» نفسه فيها كأنّه يُعذّب، بل أخذ يستذكر ما قرأه عن تعذيب القشاتلة للمسلمين في الأندلس، أو كالطرّق التي سمعَ عنها بحرفها وصورتها الصّحيحة التي اقترفها رجالات حزب البعث في تعذيب خصومهم! هذا نوعٌ من التعذيب، أن تتساقط قطرات الماء الباردة، علىٰ أجزاء من جسدك بتلك الصورة! ولعمري إنّ مشاهدة مباراة بين فريقين إيطاليّين يُدافعان طِوال التسعين دقيقة أخفّ أثراً، وأوطأٌ ألماً من هذا!
ولكن ما الحيلة، لا يستطيع أن يتكلّم، والأغرب أن «عزّت» ما علم لَمَ لَمْ يتكلّم! ربّما لأنه وبقدومه إلىٰ الصّالون قال له المِعلم الكبير إن رأيتَ خطأً من هذا الحلّاق فأخبرني لأُصلح الأمر. علمَ عزت بهذا القول أنّ هذا الحلّاق الإلفي مُستجِدٌّ في هذه المِهنة، وأنّه لا يليق به أن يشتكيه عند معلّمه، وقد قطع علىٰ نفسه قانوناً قد أرتآه لنفسه أيام عمله في الأسواق، إذ رأىٰ بعض الزبائن تشتكيه عند معلّمه، فكره هذا النّوع من الزبائن، وجعل يُغلّظ الأيمان بأن لا يُذوِّقَ أحداً من نفس الكأس، وألا يُجرِّع مخلوقاً مرارة الشكوىٰ عليه.. فما لم يرتضيه لنفسه لا يرتضيه «عزّتُ» للنّاس. ليتَ كلّ النّاس مثل «عزّت»!
استمرّ عزّت علىٰ ذلك الحال، يكابدُ الشكوىٰ بمرارة الأمل، ويُسكّن التعذيب بصورة الصبر، ويعالج الحاضر بخيالٍ غير صائر، أو بماضٍ غير عائد.
ــــــــــــــــــــــــ
¹: الإلف: بالإنجليزي يعني الجن. يومئ الكاتب إلىٰ شخصيّات الإلف في سلسلة أفلام سيد الخواتم The Lord of The Rings، لجورج آر. آر توكلين.

تعليقات
إرسال تعليق