نظرةٌ علىٰ كتاب من أيام العمر الماضي لـلنفيسي
إنما المرء بتجاربه، لا ساعاته وأيّامه. وحسبهُ أن يغتنم بعض ما عنده من الوقت في تعجيل عقلهِ الإدراك، وتسريع قلبهِ الفهم. وإن مَناط المرءِ في كسب العُلا أن يدرأ عن نفسه سُبل التراخي، وأن يشتدّ في عزيمته علىٰ امتطاء المَكاره، وألّا يُمالي نفسه علىٰ السّكون والدّعة، والخُمول والكسل. وحسبهُ من المُنجيات الفُضول الذي يعتريه، وحبّ الإطّلاع الذي يُسابقه الوقت، فيخشىٰ أن يطوفَه وما كسَبَ شيئاً!
وإن الدّكتور عبد الله النفيسي رجلٌ قد أعياه السّكون، فهو لا يِطيق القعود؛ فإن لم يعمل، جهِد أن يتعلّم. وربّما قال أحدُهم: إن له عائلةً تسندُهُ فيستغني عن النّاس، ولهم من الأموال ما لا يحتاج معها منحٌ ودعمٍ، يكتفي بما عند أبيه، فأنّىٰ لنا مثل ما عنده؟ وقد ذكرتُ لعمري قولاً لابن حزمٍ الأندلسي الظاهري، وهو العالم الفقيه المفكّر الفيلسوف الوزير ابن الوزير المُتربّي في بيت العز والجاه، بين النساء والجواري، والترف والنعماء، إذ تعلمون أنه كان من بيت وزارةٍ وغنىًٰ، فجعل بعض أقرانه يوعزون تفوّقه عليهم، وتمكّنه من العلوم شتىٰ لِما عند أبيه من المكانةِ والجاه والوجاه، إذ وقعت مناظرةٌ بين ابن حزم وأبي الوليد الباجي، فلما انتهت، قال الباجي: تعذرني.. فإن أكثر مُطالعتي كانت على سراج الحرّاس! (يُريد الفقر) فأجابه ابن حزم: وتعذرني أنت.. فإن أكثر مُطالعتي كانت علىٰ مصابيح الذهب والفضة! (يريد الغنىٰ) علّق علىٰ ذاك ياقوت الحموي: أراد أن الغنىٰ أضيعُ لطلب العلم من الفقر.
وإنّي والله حينَ أقرأ سيرة النفيسي؛ فيذكر أيّامه في لبنان، يوم كان طالباً في العلوم السّياسيّة والعلاقات الدّوليّة في الجامعة الأمريكية في بيروت، فيتحدّث عن تعدّد الأحزاب، والقوىٰ الفكرية، وعن التكتّلات والمُناوشات العلميّة، والهيجان العاطفي في مسائل السّياسة والاجتماع والدّين؛ فهذا إخوانيٌّ، وذاك سلفيٌّ، وآخرٌ اشتراكيٌّ، ورابعٌ قوميٌّ، وخامسٌ بعثيٌّ، وسادسٌ ليبراليٌّ تحرّريٍّ، وسابعٌ بين هؤلاء وهولاء وهؤلاء. وحين تسمعه يتحدّث عن فكر طلّاب الجامعات حينها، وعن دور المعلّمين والأساتذة، وعن مناهج التّدريس، وعن قوّة المراجع المفروضة.. حين تقرأ حديثه عن تِلكُم الأيّام ينتابُكَ شعورٌ بالقرف من حاضرٍ فيه من السّفاهة والتّفاهة، والحُمق واللّكاعة، والنّوكِ والجهالة ما تروم عنه الخلاص إلىٰ بيتك وتعتزل الجامعات والمدارس.
إن هذه الصروح إن لم تكن تزعُ في الطالب رُوح التعلّم لأجل العلم والعمران، ولم تُبقِ فيه نزعة الفكر، وروح المعرفة والبحث، ولم تزرع بين طلّابها غِراس التّنافس والتّسابق؛فبئست هي من صروحٍ! هذا إن وصفناها بالصروح. إنما هي أطلالٌ أوت إلىٰ أطلالٍ قبل أن تكون عمران، وقبل أن يتم بناها. وما نفع الشّهادات والجّلاءات إن كان أمر العلم قد بخس ثمنه حتىٰ صارت دلالته ورقةً مختومةً من أناسٍ ما سعوا في حياتهم إلا أن تكون لهم ذات الورقة المختومة!
وهبكَ وصلت إلىٰ مُبتغاك في طلبِ العلم، ونيلِ المراد، ونهلِ المعرفة؛ أترىٰ النّاس مُقدّريك ما تصنع؟ لا، لن يفعلوا، سيقولون: وما يغني عنكَ علمكَ ذاك؟ هل سيُطعميك خبزاً؟! إن كان ثمن العلم الخبز يا آدمي؛ فبِئس المِراد وبِئس الطّلب، وسحقاً لعلمٍ كان لزامه خبزاً أو منصباً. إنما يُستعاض بالعلم لنيل العُلا بعمران الأرض، وخدمة الأُمّة، ونفعِ النّاس، وأن يكون هذا المنهلُ غِراساً علىٰ الأرض يأكل من ثمره أقوامٌ يخلفون أقوام، لا حطباً يحرقونه أغراب!
ثم جعل الكاتب يتحدّث عن الحالة السّياسيّة في المنطقة عموماً وفي الخليج خصوصاً، وفي الكويت أخصّ الخصوص. إذ كانت المنطقة أنذاك تعجّ بالمتغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة؛ فمن جهةٍ.. حرب العرب واليهود، وصعود القوميّة العربية النّاصريّة، وسيطرة الأحزاب القوميّة علىٰ شتىٰ مناحِ الحياة في عدّة دول، كذلك سيطرة حزبي البعثِ علىٰ العراق والشّام، ومن ثم حرب الخليج الأولىٰ بين إيران والعراق لثمان سنوات، وقبلها صعود الخُميني إلىٰ رأس السّلطة في إيران ونجاح ثورته الإسلاميّة المزعومة، وإبراز فكرةِ ولاية الفَقيه. وقبلها سيطرةِ الأحزاب الشّيوعيّة الماركسيّة اللّينينيّة علىٰ عدن واليمن، ومن ثمّ انتقالهم إلىٰ عُمَان وحرب ظِفار.
ثم جعل الكاتب يتحدّث عن محاولته السّياسيّة الأولىٰ والأخيرة والوحيدة في الكويت، حين ترشّح لمجلس الأُمّة، وفاز وصار عضواً في المجلس، وضمن مجموعة السّياسة الخارجيّة إبان الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم حلّ المجلس بقرارٍ أميريٍّ غير دستوريٍّ ولا قانونيّ. وما أعقبَ ذلك من تطوّراتٍ أدّت إلىٰ سجنه ومعاقبته. ومن ثم خَتَمَ الكاتبُ كتابهُ بحديثٍ مقتضبٍ موجزٍ عن حرب الخليج الثّانية، ودخول صدّام وحزب البعث العراقي الكويت، واحتلاله لها.
ولمن لا يجد لنفسه متّسع القراءة -وأنا لذلك غيرَ محبٍّ ولا مُعجب-؛ فله أن يعمدَ إلىٰ استِماع حلْقات الصّندوق الأسود. إذ فيها استضاف عمّار تقي الدّكتور، وسرَدَ بشيءٍ أوسعَ وأعمقَ سيرتَهُ، وتحدّث عن كثيرٍ من الملفّات السّياسيّة الشّائكة.
عبدُ اللهِ، أبو هاشم، مِحمّد الأُمّي
الجمعة: ١٠ شوال ٤٥ه، ١٩ نيسان ٢٤م

تعليقات
إرسال تعليق