سلاحُ من لا سلاحَ له

 


كان في يومٍ قد فرغتُ فيه من درسي الجامعي، وتوجّهتُ إلىٰ محطّة الحافلات، وإذ بي أرىٰ ازدحاماً علىٰ قلّة الحافلات؛ لا تمرّ الحافلة إلا كل ربع ساعة أنذاك، وكلّما جاءت واحدة؛ كانت ممتلئة، ولا يركب فيه حين تقف إلا اثنين منّا، ولا ألحق أنا بأنا أركب لكثرة الازدحام كما أسلفت. فكنتُ أتأفأف، وأنطلق إلىٰ الموقف الذي يسبق موقفنا هذا، وكلما رحتُ إليه أراه مزدحماً، فأسير إلىٰ الذي بعده، ثم إلىٰ الذي بعد، ثم إلىٰ الذي بعده.. حتىٰ تراني قد قطعت سيراً علىٰ الأقدام ٢٠ دقيقة. حينها فقط عيّ صبري، ونفد احتمالي لذلك علىٰ شدّة في الطقس، وظهيرةٍ ألوت الأكباد لحرورها. ففتحت الهاتف، ودخلتُ حسابي علىٰ منصّة الانستغرام، وكتبتُ نصًاً فيه طعنٌ وتجريح، وسبٌّ شتمٌ في البلدية وأعوانها. ثم أغلقته، وانتظرتُ الحافلة، التي أتت ورأيتها مزدحمة، ولم أستطع كرّة أخرىٰ الركوب، وأتت بعدها واحدة كذلك؛ ولم أستطع اللحاق بها. هنالك، رأيتُ هاتفي يرن، فتحته فرأيتُ أبي الذي يتّصل.. وأنذاك سمعته يوبّخني ويؤنّبني، ويلومني ويعذلني علىٰ ما صنعت. وأعطاني محاضرة يومها في أن: ❞ليس المؤمن بالطعان، ولا اللّعان، ولا الفاحش، ولا البذيء❝.

منذ ذلك الحين، وقد رأيتني صادّاً عن الشتم، نائياً عن السبّ، وقد كنتُ أساساً من قبلها بعيداً عن القذف إذ أعرف جريرته الكبرىٰ. وعلىٰ أن شتمي ليس بالصورة التي هي عند بعض شبابنا -هداهم الله وإياي-؛ لكنّه سبٌّ علىٰ أيّة حال، لا ينزل السب عن حقيقته إن خفّ ثقله، يبقىٰ الشتم شتماً. أنذاك، ومن ذاكم اليوم صرتُ أبعد ما أكون عن الشتم، وقد زاد حدّه عن حدّه.

رأيتُ أن السبّ إنما هو صفة العاجز، وجبلة الضعيف، وطبع المغلوب علىٰ أمره، المذلول علىٰ نفسه، المهزوم أمام غيره، الذي ليس له من حيلةٍ سوىٰ لسانه يقذع في أعراض الناس، فإذاما وُوجِه عند خصمه نأىٰ عنه، وانصرف إلىٰ السكوت والصمت، وأعجبه من انتصاره أن يلوث في عرضه وشفه، وكان كما الراعي الذي سلبه اللصوص إبله، فعاد إلىٰ قومه يقول: أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل. هذا من ذُلٍّ حوىٰ صاحبه، وهال به فأنجعه عن القوة والمهابة، وصرفه إلىٰ الخور والجبانة. وأين هو من شيم العرب ومكارمهم، وأين هو من خلائقهم ومروءاتهم، وله من قول عنترة عِبرة إذ قال في ابني ضمضم:
الشاتمي عِرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألقُهما دمي

فجعل شتمهم ووعيدهم في موضع هزلٍ، وصورة الخرع، ومن سبق قوله فعله كان وعيده أدنىٰ من أن يُصدّق. والمرء من حسن فعله، وجادت يده، وتصرّف ذراعه، وعمد عضده. وكم صار يُندي أناسٌ من بني جلدتنا، قذعوا في أعراض الأموات من الطغاة المجرمين، فإن أولئك الطغاك وأن كانوا أعدىٰ أعدائنا، وأندّ خصومنا؛ فأين كنّا يوم كانوا أحياءً؟ لم صرنا نستقوي عليهم في مماتهم، فلعمرمكة ما هذا إلا علامةٌ علىٰ ضعفنا، وأمارةٌ علىٰ وهننا، أن خضعنا لهم في محياهم، وتجاسرنا عليهم في مماتهم. فما قول بعضهم: يلعن روحك يا حافظ؟ لو أنّك تلعنه يوم كان في دنياك! وما قول آخرين: فطس الخنزير جمال عبد الناصر؟ أين كنت يوم كان؟

قال الله ﷻ: ﴿ولا تسبّوا الذين يدعونَ من دونِ اللهِ فيسبّوا اللهَ عدواً بغيرِ عِلم﴾² عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قيل: يا رسول الله ادعُ علىٰ المشركين، فقال ﷺ: ❞إني لم أُبعَث لعّاناً، وإنّما بُعثتُ رَحمةً❝. وعن جابر بن سليم –رضي الله عنه-، أنه قال لرسول الله ﷺ: اعهد إلي، قال: ❞لا تسبنّ أحداً❝. قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاةً.³ وقال له رسول الله ﷺ : ❞وإن امرؤٌ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك؛ فلا تُعيّره بما تعلم فيه، فإنّما وبالُ ذلكَ عليه❝.

وجرىٰ بين الأحنف وبين شاعرٍ كلامٌ، فقال له الشاعر: والله لأشتمنّكَ شتماً يدخل معك قبرَك، فقال: يا ابن أخي، إنما يدخل معك قبرك دوني، إن الكلم الصالح يزيّن صاحبه في الدنيا، ويلقىٰ خيره في الآخرة، وإن الكلم السيء شيِنٌ عاجل، وشر آجل. وقال الشاعر:
وكم من لئيمٍ وَدّ أنّي شتمته
وإن كان فيه الشتمُ صابُ وعلْقمُ 

ولَلكفُّ عن شتم اللئيم تكرُّماً
أضرُّ لهُ من شتمهِ حين يُشتمُ

وقال ابن الأعرابي: ‏‎”وأصل الخبثِ في كلام العرب المكروه. فإن كان من الكلام فهو؛ الشتم، وإن كان من المِلَلْ فهو؛ الكُفر، وإن كان من الطعام فهو؛ الحرام، وإن كان من الشراب فهو؛ الضار.“ وجعل عمرو بن الأهتم لرجلٍ ألف درهم علىٰ أن يُغضِب حليم العرب الأحنف بن قيس. فوقف الرجل أمام الأحنف يسبّه، فأمسك عنه، فأكثر الرجل السبّ، إلىٰ أن أراد الأحنف القيام للغداء، فأقبل علىٰ الرجل، فقال له: يا هذا إن غداءنا قد حضر فانهض بنا إليه إن شئت، فإنك مُذ اليوم تحدر بجمل ثفالٍ ثقيلة. وشتمه رجلٌ، وأكثر فيه السب، فلمّا وصل الأحنف إلىٰ الحي الذي يسكن فيه قال للرجل: يا هذا إن بقي لديك شيءٌ فقُله؛ أخاف أن يسمعك فتيه الحي فيؤذوك. قال شاعر:
‏ولستُ مشاتماً أحداً لأنّي 
رأيتُ الشتمَ من عِيِّ الرجالِ

عبدُ الله، ومقتفي أثر نبيّه، أبو هاشم مُحمّدٍ الأُمّي
٢١ شعبان ١٤٤٥ه‍، السبت ٢ آذار ٢٠٢٤م

ــــــــــــــــــــــــ
¹: صحيح مسلم، برقم: ٦٦١٣.
²: سورة الأنعام، آية: ١٠٨.
³: صحيح أبي داوود، برقم: ٤٠٨٤.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١