عامٌ كأيّ عامٍ خلا



ها نحن شارفنا علىٰ نهاية هذا العام، الذي انصرم ذكره، وانحل عقده، وفرطه أمره؛ أن نازعنا بأهوالٍ تشيب لها الولدان، وتُسقط بها الحُبّل، وتبور بها البلدان. عامٌ حالَ علينا بما يضنينا، وبما يُسقم قلوبنا، وتنفطر به أكبادنا، وتُستعرّ نيران الأسىٰ في أفئدتنا، فما هدأ روع اليتامىٰ، ولا سكن خاطر الأيامىٰ. تثاقلت علينا الهموم، وتكالبت علينا الأمم، وتناهشت الدول قطعاً من جسدنا الواحد، فما صار يشتكي عضوٌ؛ إنما صار يُنتزع من الجسد، ويُرمىٰ في طيّ النسيان، وصار سائر أعضاء الجسد يتداعون لا من الألم؛ بل من السأم والملل.

وعدَت الأيام علينا بشواظها، ومّر بعضها: حتىٰ فُجِعنا بفاتحة عامنا بزلزالٍ في الشام والأناضول، أهلك البلاد والعباد، وأعدم الحرث والنسل، ثم ما إن سكن بعض روعنا، حتىٰ بوغتنا بحرب استعرّت في السودان، وعدا بعض الذئاب علىٰ إخوتنا ينهشون لحمهم، ويلوثون عرضهم، يأكلوا أموالهم، ويغتصبون ديارهم. ثم نُبادَر بزلزالٍ آخر مثل صاحبه الآنف في الشدّة، ظهر في بلاد المغرب، وأُحدِث فيهما ما نعلم، ثم لحق به آخر في بلاد الأفغان، وقلب عالي الأرض سافلها؛ فما يلتأم جُرحٌ إلا وفُتِق آخر. ثم تابعت أصحابها كارثةٌ أعظم وأشدّ؛ طوفانٌ في ليبيا، فكان الماء الذي جُعِل به كل شيءٍ حي؛ صار فيه موتٌ.. فاللهم لك الحمد دائماً وأبداً، ويا ربّ خذ منّا حتىٰ ترضىٰ. ثم كان من مثله طوفانٌ علىٰ غزّة، وما كان من ماءٍ، بل من نيرانٍ وألهُبٍ وُزنت بقنبلتين نوويّتين، تتبابع بعدها رشقاتٌ من الحُمم، وزُآمٌ دمر البنيان، وأفنىٰ الولدان. وما رضيت إدلب إلا أن تكون كأختها، فنالها من أيدي الظالمين مسٌّ، وشهد بذلك بني صفيون علىٰ أنفسهم أُخوّتهِم لبني صهيون. والعرب في ذلك الحين في تروٍ وتشفٍ، وترقّبٍ كما ملوك الطوائف في الأندلس، تركوا العدو وانشغلوا بأنفسهم عنه.. فمتىٰ نرىٰ كابن تاشفين كما رأوا، ومتىٰ نرىٰ نور الدين كما رأوا منه ملوك الشام. ثم ما هدأت السودان، فكان علىٰ الخرطوم والجزيرة أن تلاقيا كما لاقتا غزّة وإدلب.

وأنا علىٰ كلّ هذا متجالدٌ يا مّكة، ومتصبرٌ لما قرأت بين طيات الصحف، ومجلّدات الصِّوان، وبين رفوف المضريّة¹، أن نصر الله لا يكون إلا للفئة القليلة، التي ما شربت من ماء النهر إلا ما غُرِفَ باليد كما صنع جندُ طالوت: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ۝﴾²، والتي ما قالت إلا كما قال المقداد رضي الله عنه: ”اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون“، لا كما قالت اليهود: ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۝﴾³.

فحين أطّلع علىٰ مثل هذا، فكأنني أشعر بطمأنينةٍ تسري في جسدي مجرىٰ الدم، وسكونٍ كسكنِ الروح فيّ، ثم لا أملك من ذلك إلا أن أنتظر. أن أنتظر ذاك اليوم المجيد، وذاك العهد الذي تشرق فيه شمس الإسلام من جديد، علىٰ أممٍ ودول غشيتهم حضارة الفساد، وارتع فيهم ظلام الليل، فتراهم بنوا بنيانهم علىٰ شفا جرفٍ، فما أخذوا من أنفسهم شيئاً يبنون فيه الممالك، إلا وانتزعوا من أنفسهم أخلاقاً لعلّ قليلها وُجِد في أسلافهم. فكان أخلاق سلفهم علىٰ شُحها نعمةً كُفنيا بها شرورهم. ثم ما كفّوا أن جعلوا بعض بني جلدتنا ينحون مسلكهم، ويقتفون أثرهم، ويهتدون مسعاهم. فبتنا إذ نريد قتال الذئاب المهاجمة مزرعتنا؛ فرأينا كلاب الحي تنهش أجسادنا، وتعض أكتافنا.. فأين الهدىٰ من هكذا زمان. علّنا أقلّها نتجالد ما استطعنا إلىٰ ذلك سبيلاً، ونشدّ علىٰ سواعدنا ما قدرنا.

ثم دعوني أنبئكم بأمري نفسي في حياتي الاعتيادية البسيطة. إذ أبصرتني مذ قدمت إلىٰ تركيا، أضع لنفسي منهجاً معرفياً خالصاً، أجهد جهدي ألا يكون لفراغ موطأ قدمٍ عندي، وألا أراه يُزاحم أعمال يومي، فتراني مدني الرأس أطالع كتاباً، أو مصغي الأذن أتسمّع سمعيّةً⁴، أو لربما أبصرتني أوجّه بصري حيث العلم والمعرفة علىٰ اليوتيوب وغيره. لم أحِد عن طقسي المعتاد ذاك قيد أنملة، وما تزحزح فكري إلىٰ غيره، وما حسبتني مفارق ذاك أبداً.. ومازالت ولله المنّة والحمد. غير أن ما بي إلا أن حلّ عليّ قمر شباط، يومها أحسستُ بشعورٍ غريب، وكأنّي ما عدتني، وكأنّي ما كنتني، وكأني ما خلتني كما خُيّل إلي. فكففتني عن ذاك القمر، ورجعتُ إلىٰ نفسي التي عهدتها، وآليتُ ألا أبصره بعدُ.. فما قدرت، وما جرؤت عليه، ولم أجدني إلا وكلّي لهفةٌ؛ أصدّها تارةً، وتصدّني طوراً. وأنا علىٰ هذا مكابر مُعاندٌ، وفيّ من قول ابن الأحنف شيئاً:

قل ما بدا لك أن تقول فربما
ساقَ البلاء إلىٰ الفتىٰ المقدارُ

وساق البلاء نفسه إليّ، وكان من العجب أن البلاء بذاته كان رادعاً، وكان ردعه لي سبيلاً لولهي به، ولو لم يردع نفسه بنفسه لما أردته، ولما استسغته. فكان بعده رحمةً لي وله، وكان قربه بلاءٌ له قبل أن يكون لي. وهذا من عجيب خلق البشر، الذين جُبِلوا عليه؛ فالممنوع مرغوب. ولعلّ هذا فيه من طمع الإنسان.. وهذا الخلق كذا طُبع عليه صِرفةً.

وهاتيكم من لواحق عامنا فرحةً واثنتين، فما وجدتني في آخر سنتين إلا إذ خرجت من بيتي فأقول: اللهم اكفنيهم. لعلّ هذا القول قد نمىٰ فيّ مذ أن حكىٰ لي أبو الحسن قصة أصحاب الأخدود، وكيف كان الجند يأخذوا الغلام بأمر ملكهم، فيصعدوا لأعلىٰ الجبل، ليقذفوه من علٍ، فما يقول: اللهم اكفنيهم= حتىٰ يرتجّ بهم الجبل فيهووا، ويعود الغلام إلىٰ الملك يُريه أمر الله. ثم يأتي جندٌ آخر، فيأخذوا الغلام بأمر ملكهم إلىٰ لُبّ البحر، ليُغرقوه، فما يقول: اللهم اكفنيهم= حتىٰ يغرقوا، وينجو هو بنفسه، عائداً إلىٰ الملك، يريه أمر الله.
وأنا علىٰ أثره، علىٰ فارق المثال، وبون الحال، كلما هممتُ خارجاً دعوت ربي: اللهم اكفنيهم.. وإن لم تكفني فمن يفعل؟ أقسمتُ بعزّتك وجلالك ألا أعبد غيرك، وألا أطلب المدد والعون إلا منك؛ فإن لم تمدّني فمن يفعل؟ وإن لم تعنّي فمن يعن؟ ألا بؤتُ بخسران الدارين إن صرفت عني وجهك. وما خاب الرجا به سبحانه عُزّ ذكره، وقُدّس اسمه، وجلّ شانه.. فما دعوته إلا أجابني، وما سألته إلا أعطاني.

وأما آخر الأمر، وخاتمته.. أني عزمتُ مطلع العام أن أجعل ما عُلّمته في الثلاث سنين السابقة -علىٰ قلّته- في خدمة هذه الأُمّة. وكان من ملامح هذه الخدمة؛ أن تمخّصت «أرائك»، لتكون مسيرةً لي في حياتي هذه. ولأذكرنّها مفتخراً.. أني في ٢٠٢٣م أسّستُها. فاللهم لك الحمدُ حتىٰ ترضىٰ، ولك الحمدُ إذا رضيت، ولك الحمدُ بعد الرضىٰ.

من الله التوفيق، وعليه الاتّكال، وذاته من وراء القصد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دوّنها    أبو هاشم،   مُحمّد  بن   يحيىٰ   الرفاعي   الأُمّي
في يوم عصر يوم الأحد، ١٨ جمادىٰ الآخرة ١٤٤٥ه‍
الموافق  خاتمة  العام، ٣١ كانون الأول لسنة ٢٠٢٣م
في  حي  يلدريم  بايزيد،  كوتاهيا، تركيا،  عند المضرية

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
¹: مكتبتي الشخصية.
²: سورة البقرة، الآية ٢٤٩.
³: سورة المائدة، الآية ٢٤.
⁴: أعني بالكلمة بودكاست.

تعليقات

  1. سلمت أناملك وعاشت مخالبك وجعلها تذود عن أعراض المسلمين

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١