خاتمة الغربنة
دنت آجالنا، وتدنّت أحوالنا، وساء بنا الزمان، وحذا حذوه منذ القدم أن اضطهدنا، وصرنا حفاةً عراةً مشرذمين، لا يبلغ شريفنا من الأمم قدر وضيعهم، وليس لوضيعنا قدراً إلا كقدر البهائم، ورخصت دماؤنا، وقلّ ثمنها، وزهدت قيمتها، فصارت أسيالاً وأنهراً، وصار في يومٍ يحدث أن تعلم مقتل ٤٠٠ شهيدٍ، ومرّةً ٥٠٠ أو ٦٠٠ أو ٨٠٠ أو حتىٰ ألف شهيد.. ليس هذا مستغربٌ عند أحد، وما عادت تلك المجازر تزع في أنفسنا حزناً فضلاً عن الأمم الأخرىٰ. وما تسكن خواطرنا إلا بفيض من دماء العدو، يُسكن ذاك الدم آلامنا، ويُضمّد جراحنا، ويبعث علىٰ قلوبنا من البرد الذي نذوق به طعماً من مذاق الجنّة.
أترىٰ تلكم الجراح الحارقة، وتلك الهموم المثقلة، وعذابتنا تلك التي تبارحنا، التي التصقت فينا بأشدّ من الوريد إلىٰ الشريان.. لطالماً جعلت استبصر الأمر منها، واقتفي تلك الحكمة الربانية، إذ وإن الله ﷻ مقتدرٌ علىٰ عباده، لا تغيب عنه خافيةٌ ولا شاردةٌ، يدبّر الأمر، ويقدّر القدر، يعلم ما يكون، وما لن يكون، وما هو كائن، وما كان سيكون لو كان؛ فكيف لا تكون هناك حكمةٌ، نهتدي بها سبلنا، ونعلم بتجلّيها بحقٍّ بوحدانية الله وعلمه الذي لا يحصىٰ.
ذاك أني ومنذ شروع غزوة طوفان الأقصىٰ المباركة، تأملت كتابات العامة والخاصة، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل، والمرأة والرجل، والصغير والكبير، والشاب والشيّب= فرأيتهم قد توحّدوا علىٰ صورة الجسد الواحد، الذي إذا اشتكىٰ منه عضوٌ تداعىٰ له سائر الجسد بالحمّىٰ والسهر. وبات فلتات لسانهم تنمّ عن حقيقةٍ واحدةٍ لا مناص من اعتناقها، وليس ولا من امتهانها، وتلبّسها لباس الجلد للجسد، وهي: روح الأمّة. وهذه الفكرة التي تأتي تباعاً هي أفكارٌ عدّة، كلها تؤدي إلىٰ الفكرة الواحدة: لا يهزم العدو إلا بنهضة الأمة، ولا تنهض الأمة إلا بالعدل ولا يسود العدل إلا باستقامة الحاكم، ولا يستقيم الحاكم إلا بصلاح الرعية، ولا تصلح الرعية إلا بنبذ التسلّط الفكري للغرب، ولا يُنبذ هذا إلا بآثار العلماء، ولا يتمّ لهم هذا إلا بالخشية من الله ﷻ والرجوع إليه= وهذا كلّه مردّه إلىٰ روح الأمّة كما أسلفت.
روح الأمة التي يُستمدّ حبرها من اجتماع الناس علىٰ عقيدةٍ واحدةٍ تجعلهم في رؤية بائنةٌ مظهرها، وهي الشهادة بوحدانية الله، وخاتمية محمدٍ ﷺ. بها ترىٰ العربي يتألم لمصاب أخيه الهندي، وذاك الكردي يحزن لآلام أخيه التركستاني، وذاك الجاوي الذي توجّم علىٰ أوجاع أخيه الهندي. علىٰ اختلاف لغاتهم وألوانهم ومشاربهم= تراهم في صفٍ واحدٍ كالبنيان المرصوص يشدّ بعضهم بعضاً. وهذا كلّه كوم، وما سأمليه بعدئذٍ كومٌ آخر: ذاك وبنزعتي الإسلامية الأمية، وبرؤيتي الدائمة علىٰ تفوق الحضارة الإسلامية علىٰ نظائرها من الحضارات السابقة واللاحقة؛ إذا جمعت بين الحضارة العمرانية، والفكرية، والأخلاقية علىٰ حدٍّ سواء.. كنت دائماً ما أمقت طبقة المثقفين الذين روّجوا لأفضلية الغرب الأخلاقية، وأن القيم الغربية هي أجل القيم الإنسانية علىٰ مرّ العصور، لما حملته من شعلة الحرية والمساواة والعدل، ولما أصابت به العالم من التطور التكنولوجي، والازدهار والرقي والتقدم الذي لم تحرز مثله الأمم السابقة، والحضارات البائدة. كان هذا كله أكبر حجّةٍ لبعضنا وخاصتنا ممن يوصفوا بأهل الرأي والعقل، وأصحاب الحكمة البليغة. تبعهم من ذلك عامّة الناس، الذي يشهدون بما أبصروه بأعينهم، وبما سمعوه بآذانهم، فكان بييان الحال أبلغ من لسان المقال، وما يغني البيان عن صورةٍ زائفة غزت العقل الجمعي للمجتمعات، فلو أتيت لهم بألف خطبة لما سمعوا لك، ولما أنصتوا لقولك، ويحضرني من هذا أن أتذكر مقولةً لساسيٍّ غربي، إذ يعلل سبب انتصار الغرب في نهاية أمرهم علىٰ الولايات المتحدة الأمريكية بأن الأفغال لم يشاهدوا أفلامرالسوبر هيرو ورامبو والعميل جيمس بوند، ولم يشربوا من ستاربوكس، ولم يأكلوا من كنتاكي.
إذ أن تلك الذي يسميه جوزيف ناي هي القوة الناعمة التي تؤثر بالشعوب دون الحاجة لبذل أي مجهود باستخدام القوة الصلبة الشديدة لاحتلال الشعوب. فإن المرة المسلم ما إن يرىٰ قوة الجندي الأمريكي، وبسالته، وشجاعته التي لا تضاهيها شيء؛ حتىٰ يعود عليه ذلك بالسلب، ذاك أنه يهابه ويخشاه قبل أن يلقاه، فيشعر في دواخل نفسه أن لقاءه ضربٌ من التهور، وأن مسلك الشجاعة في تلكم اللحيظة ليس بذاك الحد من النجاعة، فالأجدىٰ له أن يُسلّم نفسه لحكمه، وأن يرضىٰ بالخنوع له، والخضوع لأوامره.. هذه القناعة ليست وليدة الصدفة أو اللحظة، بل هي نتاجٌ تراكمي من البهورة الإعلامية طوال قرنين من الزمن، من لدن إقرار الإصلاحات القانونية في عهد السلطان محمود الثاني وحتىٰ زمان الناس هذا. وبحكم أن بلادنا العربية والتركية والفارسية علىٰ سواء قريبةً من بلاد الغرب، ملاصقةً لهم كانت تلك الشعوب المسلمة أكثر الناس تأثّراً بموجات الحظيرة الغربي.
لَكم فرحت حين بدأت أقرأ لكبار المثقفين والأدباء والأكاديميي والفلاسفة وأساتذة الجامعات وهم يطعنون بالنتاج الغربي الفكري القيمي المبادئي الأخلاقي، وأخذوا يلومون أنفسهم علىٰ سنين أضاعوها هباءً في تدريس طلّابهم تلك المسودّات الأخلاقية، المهترئة من داخلها، المتزعزة المنطق، والمثالية الرؤية، والخيالية التحقيق. فهاك مثلاً دكتور جامعي، المصطفىٰ ولد اگليب يقول: ”أصبحت أخجل من طلابي الذين درّستهم عبر عقود فلسفة الأنوار، وما لحقها من فلسفات غربية حديثة معاصرة تمجّد: الحق، العقلانية، الإنسانية، القيم، الأخلاق، التقدم، العدالة، الإنصاف، حقوق الإنسان، الحرية، النقد.. إلخ. أعتذر لكم طلابي الأعزاء، لأنني كنت مشاركاً في خداعكم. الغرب هو أكبر أكذوبة عرفها التاريخ.“
وإن كان صاحبنا هذا منصفاً قد علم الحق فاتّبعه، وعلم الباطل فاجتنبه، بلغ زاد وأن اعتذر وهاهو ينصح طلبته بالنفور من المبادئ الغربية، فلك أن تلقي نظرةً علىٰ من أخذته العزّة بالإثم، ولم يسأه في واقع الأمر من عدوان الإحتلال الإسرائيلي علىٰ إخواننا في غزّة إلا مخافة أن يتضعضع بنيان القيم الغربية الذي شيّده مستَنبَتي أمتنا علىٰ مدىٰ عقود طوال، فيقول عزمي بشارة: ”لقد أصبح نفور عند الكثير من الشباب تجاه القيم الغربية“ وذلك في معرض حديثه عن الغرب وتعاملهم مع الإحتلال الصهيوني وهمجيّته علىٰ الحضارة، وتدميره للبلاد، وإهلاكه العباد، وأنه -أي الغرب- ما وضع حدّاً لكثير من الحريات؛ من مثل الخمور، والفواحش، والمخنثة وغيرها من الموبقات.. إلا إسرائيل -وهي والله من الموبقات- فإنها عصيّةٌ علىٰ الأمم المتحدة أن تخوض في أمرها، وإسرائيل هي فوق القانون، لا سلطان علىٰ السلطان كما يزعم الغرب، والسلطان هاهنا إسرائيل.
إن عزمي بشارة أحسّ بالمعضلة التي ما يلاقي لها حلّاً، فقد تبيّن له مما يرىٰ أي جاهلٍ فضلاً عن العاقل، أن الغرب إنما يرون أن قيمهم صالحة عندهم لا عندنا. وكما عجبت حينما سألت أحد المولعين بالغرب عن سرّ تمسكهم بقيم الغرب، فأجاب: المساواة والحرية. فقلت له: ما بالهم يصنعون غير ما يتحدّثون فيه. من مثل دعمهم لإنقلابات سوريا ومصر والعراق وتركيا وإيران وباكستان، ووقوفهم بجانب جنرالات الأرض الوسطىٰ¹، ودعمهم لجنرالات الدول الأفريقية المنقلبة علىٰ شرعية الشعوب؟ فأجاب واهماً واهناً: لأنهم يطبّقون تلك القيم عندهم!
أرأيت التناقض الكائن في أجوبة المستَنبتين؟ لأنهم يطبّقون تلك القيم عندهم.. يا هيك حضارة يا بلا، يا هيك قيم يا بلا، يا هيك عدل يا يا بلا..
ويكأننا نخرج من جحر الضب..
عبدُ الله، مُحمّد الأُمّي
١٨ ربيع الثاني ١٤٤٥ه
يلدريم بايزيد، كوتاهيا، تركيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
¹: ما يسمىٰ بالشرق الأوسط، ولا أحب هذه التسمية.
¹: ما يسمىٰ بالشرق الأوسط، ولا أحب هذه التسمية.
تعليقات
إرسال تعليق