غزّة بالعين المهملة
وقد حدّث البعض نفسه، إذ نظر إلىٰ كل تلك التضحيات التي قُدّمت، وكل تلك البلايا التي قد عمّت البلاد، وأهلكت العباد، وساءت النفس لما احتملت من مشقّة الصبر، وإن الجلادة كادت لتفنىٰ من أفئدة الأنام، وما عاد في النفس إلا تلكم الأنفاس، التي غدت بين شهيقٍ وزفير، وتلك الدماء التي ما إن تخرج من بين شرايين القلب حتىٰ تصل إلىٰ سائر الجسد، فيتغيّر اللون؛ مصفرّاً مرّةً، ومحمرّاً أخرىٰ، ومزرقّاً طوراً ثالثاً. علىٰ إن كنت لست في تلك البقعة الكائنة في أقصىٰ جنوب بلاد الشام، وأدنىٰ الحجارة إلىٰ الديار المصرية، وأعلىٰ سنام الديار الحجازية، المحصورة المخنوقة من اتجاهاتها الأربع -إلا ما علاها وما دناها-، في ٣٦٠ كيلومتراً مربعاً= فلربما بقيت دماؤك بين جنبيك وعضديك، ما خرجت إلا النزر اليسير. فإن كنت في تلك الأرض لنُثر دمك فيُغطي ذاك الفضاء الشاسع، ويخرج عبقه فيملأ الأرض ريحاً من روائح الجنة، والأرض حينها بين شعورين؛ فهي كارهةٌ للدم الحرام المسفوك، وهي في سعدٍ أن تجلّت لها دماء الشهيد، ومن ثم فتحت فاهها لتحفظه في طياتها، وتدرأ عنه الأخطار.. حتىٰ يبعث يوم القيامة علىٰ حاله ذاك، ليكون لسان حاله أصدق من لسان مقاله.
ثم لتخرجنّ روحه صاعدةً، إلىٰ بين يدي ربها، وملك الموت وقد قبض روحه كما تُنزع الشعرة من العجين، ذاك الملك الذي لربما كان خصماً لبعضهم في حياتنا الدنيا الزائلة الفانية، وودّ لو صنع معه كما صنع موسىٰ إذ لكمه لكمةً شكاه إلىٰ ربه من قسوتها، فقيل له: فليمرّر راحة كفه علىٰ شعر الجاموس، وما مرّ تحتها من شعر فهي له بكل واحدةٍ سنة. فانتاب كليم الله تساؤلاً: ما بعد ذلك؟ ما بعد ذلك هو الموت لا ريب! ألا هل استحقّت الحياة كل ذلك التشبّث بها؟ ألا هل كان الخلود فيها هو الخلود الأبدي الذي لا نهاية له؟ فإن لم يكن، فلم كل ذلك التزاحم عليها؟ ولم كل ذلك التقاتل من أجل ريعها وملذّاتها؟ وهل صار الكدّ من أجل اللاشيء عقلانياً؟ فهل تستحقّ الحياة كل تلك المكابدة؟
أعيت الناس الحياة، وأودت بهم بسحرها فما رأوا ما بعدها. وأهلكهم اللعب عن رؤية الجد، فما صاروا إلا كالطفل الذي خرج من بطن أمه يحسب الدنيا كلها ضحك. وبات يحسب نفس في نأي عن أن يصيبه ما أصاب إخوانه.. فيرىٰ قراهم مهدّمة، وقبورهم ممهّدة، أجسادهم مسجّاة، وديارهم مرداة= ولا يحرك ذلك في نفسه شعرةً، ولا يقول إلا: هي حوالي لا علي. وأنىٰ أن أصاب بمثل مصابهم وأنا بعيدٌ عنهم، في أرض لا تصلها رحىٰ الحروب، قد زادت فيه الآماد حتىٰ رأىٰ نفسه محصناً من الموت، فهل هو منفيٌّ عنه. بل زاد أن أخذ يخذّل فيهم، ويثبّط من عزائمهم، ويرجف في أمرهم، ويأتي عليهم بلسانه تقريعاً أن أُبَوا حياة المهانة، ودنيا المذلّة، وقد نسي هذا الغرّ أن جدرانه ليست برادعةٍ، وأن حصونه ليست بمانعةٍ: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ آل عمران: ١٦٨. ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ النساء: ١٩. وما علم أن الموت قادماً لا محالة، وأنّه مصيرٌ محتومٌ، وأنه أجلٌ مكتوبٌ، وقضاءٌ موعود، فليس له عن ردّ ذلك حيلةً، وليس له عليه من طاقةٍ لصدّها:
وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها
وَلَو رامَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ
فأي السبل خيرٌ لمواجهة ذاك المصير المحتوم؟ أقعوداً في المجالس؟ أنوماً في المفارش؟ ألعباً في الملاعب؟ أم موت في أرض المعارك؟ وحملاً للسياف وللمتارس؟ وصدّاً للعدا ورداً للمهارس؟ أفتستحقّ الحياة كل تلك المكابدة؟
في اللحظات الفائتة تلك.. أتساءل.
أريد أن أفهم؟
حقٌّ ما أريد.
أريد أن أفهم.. هل تستحق الحياة كل تلك المعاناة إن لم تكن في سبيل الخالق ﷻ، وهل وإن كان هناك حباً للعيش.. أفتكون في خيام اللجوء؟ أوليس أحرىٰ بأهل المكارم أن لا يرضوا لأنفسهم إلا العيش الكريم، والموت تحت ظلال السيوف، والنوم فوق سراة الأدهم المُلجّمِ. ألا فـ”الموتِ ولا المذلّة“.
وديننا دينُ عزٍّ فلستُ أدري
أذلّة قومنا من أين جاؤوا
وإنا لسنا سوىٰ أحفاد الصحابة الذي قال سيد الأوس لعظيمنا ﷺ: ”فقد آمنّا بكَ، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناكَ علىٰ ذلك عهودنا ومواثيقنا علىٰ السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّاً غداً إنا لصبرٌ في الحربِ، صدقٌ في اللقاءِ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا علىٰ بركة الله.“ نحن أبناء عظامٍ، أبناء أشاوس صناديد، لا تفترّ عزائمنا بضعفٍ حاضر، ولا تلوىٰ شكيمتنا بتحرجم الملل علينا كما تتنافس الأكلة علىٰ قصعتها:
سلوا روما وقيصرها
سلوا فرساً وكسراها
سلوهم كيف صولتنا
إذا انطلقت سرايها
وما أجمل ما قال الجاهلي عمرو بن كلثوم سيد بني تغلب:
وَأَنّا المانِعُون لما يَلينا
إَذا ما البيضُ فارَقَتِ الجُفونا
وَأَنّا الطالِبونَ إِذا اِنتَقَمنا
وَأَنّا الضارِبون إِذا اُبتُلينا
وَأَنّا النازِلون بِكُلِّ ثَغرٍ
يَخافُ النازِلونَ بِهِ المَنونا
إِذا لَم نَحمِهِنَّ فَلا بَقينا
لِشَيءٍ بَعدَهُنَّ وَلا حَيينا
نُسَمّى ظالِمينَ وَما ظُلِمنا
وَلكِنا سَنَبدَأُ ظالِمينا
سَقَيناهُم بِكَأسِ المَوتِ صِرف
وَلاقوا في الوَقائِعِ أَقوَرينا
وَنَعدو حينَ لا يُعدى عَلَينا
وَنَضرِبُ بِالمَواسي مَن يَلينا
ألا لا يجهلَنّ أحدٌ علينا
فنجهَلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا
ثم وإن كان الضعف حجّة علىٰ التولّي، ومدعاةً لنبذ الإقدام، فكيف بداوود وهو يومئذٍ فتىًٰ يواجه أعتىٰ مستبدّي التاريخ، زعيم الجبابرة حكّام أرض فلسطين جالوت، ولا يواجهه إلا تحت إمرة ملكٍ ما كان يوماً من نسل الملوك، وبجيش لا يزيد عن جيش بدر إلا نفرٌ قليل، وبسلاح لا يتعدىٰ إلا أن يكون لعبةً مارسها الأطفال في سهول حوران، فكيف أقدم طالوت علىٰ الزجّ بجيشه في هذه المهلكة العظيمة، لولا أن هناك أموراً ربانيةً تحول بين انتصار أهل الباطل علىٰ أهل الحق، وأن نصر الله قادمٌ، ووعده صائرٌ، وقوله نبيه ﷺ صادقٌ.. ولكننا نستعجل.
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ القصص:٨٨.
مُحمّد الأُمّيّ
منتصف ربيع الثاني ١٤٤٥ه
يلدريم بايزيد، كوتاهيا، تركيا

تعليقات
إرسال تعليق