نظرةٌ علىٰ رواية ١٩٨٤ لـجورج أورويل



هذه الرواية حيث تُختزل بمفردة "التفكير المزدوج". كانت حياة «وانستون» مليئةٌ بالتقلبات، وصار فكره بين شدٍّ وجذبٍ، بين اعتناق فكرةٍ حتىٰ الصميم من نفسه؛ ثم الانقلاب عليها، بل وتسفيهها وتحقيرها، والنيل منها.

هذه الرواية حيث التناقضات الجمّة، وتنافر المصطلحات، وسوغِها علىٰ غير حقيقتها المُعلنة. إذ ترىٰ (وزارة الحقيقة): وهي لا تعني للحقيقة مقدار ذرةٍ، بل وتجهد في إبدالها، وتحويرها، وتغيير ثوبها عن باطنه، وإظهار ما هو معاكسٌ لها. ثم (وزارة السلم): وما هي للسلم بقريب؛ إذ لا ترىٰ فيها إلا معترك الحروب، وشوائب المعارك، هنا كما قيل: "السلم فوضىٰ" وأزيد فأقول: "كي تضع للسلم موضعاً؛ دع الحرب قائمةً". وهذه الوزارة، لعلّ ‹جورج أورويل› قد استعاض رسم مبناها من هرم خوفو دلالةً علىٰ غموض المعرفة فيها، وغياب حقيقتها علىٰ الوجه الصحيح، وتراها منغلقة النوافذِ، لا يدخلها ريحٌ ولا شمسٌ، فكأّك في قعرٍ مُظلِمٍ؛ لمجرّد رؤيته تذهب عنك الحقيقة. ثم لا يكفي ذلك فترىٰ بالأحرف العريضة قد كُتبَ عليها:
"الحربُ هي السلم، الحريةُ هي العبوديّة، الجهل هو القوّة."
هذا هو مناط فكرة: "التفكير المزدوج"، وهو: الإيمان بفكرتين أو معتقدين متناقضين، والاعتقاد بأن الفكرتين تمثلانِ حقيقةً مطلقةً.

ثم لديك (وزارةُ الحبّ): وأي حُبٍّ ذاك، أحسبهم إنما قصدوا أن الحبّ هاهنا هو حبّ الحرية، أن تخرج من أوكار تلك الوزارة؛ وقد هُمت بالحرية أكثر فأكثر. وأعني بالحرية؛ حرية الخروج من ذلك السجن، لا حرية الفكر، إذ سرعان ما يعتنق الخارج منها فكرة المسالمة والموادعة، والملاطفة للسلطة والإنطواء علىٰ النفس بين المنزل والعمل، وبين العمل والمنزل. ما غير ذلك من شيء. أما (وزارة الوفرة): فيُخيّل إلي أنها أصدقُ الأسماء لتلك الوزارة، علىٰ أننا نعلم أن الاقتصاد من جهةٍ، والدولة الشيوعيّة الشمولية من جهةٍ أُخرىٰ لا علاقة لهما ببعض؛ هو كالجمع بين النقيضين.

أما الأخ الأكبر، وهو مثال السلطة المطلقة، ورمزٌ للقدرة العظيمة، وصورةٌ عن الاستبداد الشامل علىٰ كل مناح الحياة. الأخ الأكبر مَن تحته؛ هو عبدٌ له، شهد له بالعبودية، فلا يخرجُ عن أمره، ولا يحيدُ عن نهيه، ويردعهُ من ذاك؛ العبارة التي تُرىٰ في كل ناحيةٍ، وكل شارعٍ، وكل حارةٍ، وكل عمارةٍ أو منزلٍ أو مؤسسةٍ حكومية: "الأخ الأكبر ينظر إليك".
نعم، تلك العين التي ترىٰ كل شيء، يُذكّرني هذا؛ بعين «ساورون» في رواية «سيد الخواتم»، إذ تراها وقد رأت كل شيء، وعلمت كل ما لا يُعلم، والأرض الوسطىٰ تحت ناظريها كرُقعة شطرنجٍ؛ ترىٰ جُندها وفيلها وقلعتها وخيلها ووزيرها وملكها علىٰ سواء، لا تُفرّق بالرؤية هذا عن ذاك.

وهذه العين تسلّطت علىٰ صاحبنا «وانستون» حتىٰ أضجرته، وذهبت بلُبّ عقله، وشغلت تفكيره تلك العين، وصورة الأخ الأكبر الذي ترقبه في كل حركاته وسكناته. حتىٰ دفعه ذاك إلا اقتراف جريمةٍ عُظمىٰ قد تودي به إلىٰ المهالك، وتسعىٰ به إلىٰ دركات الظلمات وجحيم العذاب، وأقصد هاهنا: جريمة الفكر.

نعم، في دولة أوشينيا التي تحوي الأمريكيتين وبريطانيا وأستراليا، وهي إحدىٰ ثلاث دول، بعد: أوراسيا والتي قامت علىٰ روسيا وأوروبا. وإيستاسيا التي حازت الصين والكوريتين واليابان وشمال الهند. أما باقي ممالك العالم فهي دولٌ صُغرىٰ لا يؤبه لها، ولا يلقىٰ لها بالاً.
في دولة أوشينيا هذه؛ الفكر جرمٌ عظيم، ومهلكةٌ للنفس. يُعاقب مقترفها في وزارة الحب.
وكانت جريمة «وانستون» هاهنا، أنّه أمسك أوراقاً، وأخذ قلماً؛ وراح يكتب ويخطّ بقلمه كُرهِهِ للأخ الأكبر. ومقدار بُغضهِ لهذا النظام الشمولي المُتسلّط علىٰ أرقابِ الناس، المُتحجّر للفكر، المضّطهد للكرامة الإنسانيّة.

وفي تلكم الأثناء كان قد تعرّف في مكان عمله (وزارة الحقيقة) علىٰ امرأةٍ أحبّها. ولمن لا يعلم؛ فالحب في دولة أوشينيا مُجرّمٌ ومُحرّمٌ. لا غاية من الجنس إلا استمرار النسل لا أكثر، لا مكان للعواطف والأحاسيس والمشاعر. وكان حبّه لها سبيلاً إلىٰ الوقوع في ما لا يُحمَد عُقباه. كان حبّه «لجوليا» -هي المرأة التي أحبّها- خطأً لا يُغتفر، علىٰ معرفته بخطورة ذلك. وكان رأيها كإياه في كرهه للحزب الحاكم، وبغضه لزعيمه.

وفي خِضمّ ذلك أيضاً، كان قد تعرّف علىٰ «أوبراين»، الذي ادعىٰ أنه معارضٌ للحزب الحاكم، أما «وانستون» فقد اعتقد أنه عضوٌ في المنظمة الأخويّة التي تسعىٰ لدحر الحزب الحاكم. سرعان ما تبيّن أن «أوبراين» ما هو إلا ضابطٌ في الشرطة الفكرية، قد دُسّ بين العامة ليُعلَم من يحمل أفكاراً.

فاقتيد «وانستون» و«جوليا» إلىٰ (وزارة الحب). هناك تُرِكا لساعاتٍ وأيامٍ لا تُحصىٰ. في سجونٍ انفراديّةٍ، أودىٰ به التفكير إلىٰ اليأس، وفقدان الحيلة، وضياع الأمل. كان طول انتظاره في السجن وما قد حُقّقَ معه بعدُ، وما حُوكِم؛ أشقىٰ وأعتىٰ له= إذا أن كثرة التفكير بالمستقبل تُضني العبد بأشدّ مما يلقىٰ في مستقبله ذاك.

دفعه ذاك اليأس لإن يُخبر عن حبيبته «جوليا» ليُخفَّفَ عنه من العذاب شيئاً. وهناك للقدر وعجَبِهِ؛ أن أُنهيَ ذاك الحب في (وزارة الحب). فعاد إلىٰ حياته، وقد انقلب فكره. هذا إذا مازال عنده فكرٌ من الأساس. فصار يُمجّد الحزب الحاكم، ويُعلي الأخ الأكبر. وباتت الدولة له؛ فكرته الأولىٰ، وزعيمها؛ مثله الأعلىٰ، وصورته المُثلىٰ، ومعشوقه الأوحد.

وصار ينظر إلىٰ صورة الزعيم القائد، وإلىٰ شاربه الأسود، وصورته الغَضبىٰ العبوس المتجهّمة، ويقول:
لقد صِرتُ أُحِبّ الأخ الأكبر.

أحبَـــرَهــا أبـو هـاشمٍ الأُمّـيّ، كــوتاهيا، تــركيا
صباح الأربعاء ٢٢ مُحرّم ٤٥ه‍، ٩ آب ٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١