في السابع والعشرين من آب: الجزء ٢
أين كُنّا؟ وأين صِرنا؟ ما عاد ذاك يُغني، وما السؤال بعد الخطوب يُجدي. وما لنا من تذكّر المصائب، واستحضار النوازل الغابرة؛ إلا أن تبقىٰ فينا روح الانتقام، أن نغرز بأنياب الثأر أعماق الأعادي، وأن نجعل لنواجذنا أثراً في مُحيّاهم، فلا تصير نوائبنا في طيّ النسيان، ولا نبتلي بسلاسل الخضوع، فالرحمة في غير موضعها خنوع، والصفح عن الضعف تسليم وانقياد، يقول بدوي الجبل في قصيدته التي أُسمّيها الثائريّة:
تُغضي علىٰ الذلّ غُفراناً لظالمها
تأنّق الذلّ حتىٰ صارَ غُفرانا
وما نحن من هذا الإستذكار، الذي يتلوه استعبار، إلا أن نحقد علىٰ العِدا، وأن نملأ صدورنا غلّاً علىٰ أصحاب الكفر والشّقاق والنفاق، كما قال بدوي الجبل:
آمنتُ بالحقدِ يُذكي من عزائمنا
وأبعد اللهُ إشفاقاً وتحناناً
دعني لا أستطرد، وألا أحيد عن صُلب حديثنا. كان صاحبكم قد رجع وأهله، واصطحبوا معهم عمّه وأهله. عادوا إلىٰ بيتهم، وكان في مقابلتهم عمّه الآخر، كثر الأعمام عزوةً فهل ترون من هذا فخراً أكبر، اللهم إلا الإسلام وعروبة النسب واللسان؟
وأخذوا يهوّنون عليه.. وكيف يهون؟ إن المرء ليفقد له ولداً، وله غيره عشرةً؛ فلا يطيق فراقه، ولا يحبّ إلا أن تنشق الأرض وتبتلعه ولا يصيب ولده ذاك مكروه، كما أمر يعقوب ويوسف، وعبد المطّلب وابنه عبد الله. فكيف بالوحيد علىٰ الإناث؟
أتدرون، لو كتب صاحبكم في كلٍّ أمرٍ؛ لربما كان له تجربةً، أو تصوّرٌ لأبعاد مسألته تلك؛ لكنْ فقد الولد! كيف يصنع؟ أحسبه من الآلام التي لا يواسىٰ بها المرء إلا أن يذكر دمعة عظيمنا بأبي هو وأمي ونفسي ﷺ، التي نزلت حزناً علىٰ ابراهيم ابنه، فقال: ”إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون“¹.
وهذه سنّة ربنا مع أنبيائه، ما من مصيبة ألمّ بها معاشر البشر، أو نازلةً حلّت بهم؛ إلا ذاقها أنبياؤه= لكي يكون صبرهم علىٰ ابتلائه عبرةً وقدوة.
ولو رأيتم كثرة الناس تقدم علينا تعزّي. ولو رأيتم اجتماع الناس في المآتم كما الأفراح؛ لا يأتون إلا وقد شدّ أحدهم بعضد صاحبه. ورُبّ رجلٍ أتىٰ مُعزيّاً، فجيء يُعزىٰ بعده.
أنذاك، وقد امتلأ المنزل علىٰ اتّساعه، وضاق من امتلائه، وكان صاحبكم قد اهتمّ يصبّ للمعزّين الماء تارةً، والقهوة الشماليّة أخرىٰ. لا يصرفه همّ انتظار خبر الجد إلا القيام بالأجر.
فما خبر الجد؟
كان قد عاد ذاك الشيخ العليل الكبير، وقد ابيضّت لحيته من خطوب الدهر، وما شابت إلا وكل شعرةٍ في وجهه قد لاقت من أصناف المصائب جمعاً، ومن أحوال الناس فزعاً. فإنّك لتراه مرتحلاً يعمل وقد حلّ الفقر بقريته منذ أن وعىٰ علىٰ حياته.
فذهب في ريعان شبابه إلىٰ دمشق يعمل بما يُمسك جوعه، ويحفظ عليه حياته، كان يعمل بالحلال، أفلقمة الحلال أوجأ أم أولئك الذي أفنوا عمرهم في سلب متاع الناس، وتشييب أموالهم بشُبهةِ الحرام، والإحتيال علىٰ خلق ربهم، وسرقة مالهم، وجمع تبرّعات الناس، فيأخذ منها الشيء الكثير ثم يقول: والعاملين عليها! أيهم أزكىٰ عند ربي؟
وحين ذهب إلىٰ بيروت يعمل، وإلىٰ حيفا ويافا ونحوها= ما أراد من ذلك إلا ألا يشووب طعامه حراماً.. إنما الحلال الحلال. قضىٰ نحبه علىٰ هذه الشاكلة، وأفنىٰ عمره يحدّ نفسه بحدود الله، لا بحدود العيب وكلام الناس.
ثم أودت به الأزمان أن يعمل آخر أمره في الكويت. إلىٰ أن كبر عياله، وصار كل واحدٍ فيهم يعمل، حتىٰ قالوا له اجلس في قريتنا تمشيخ، وضع الغترة علىٰ رأسك، واجلس في ديوانك، ودعك من العمل، نكفيكه، ويأتيك مالك لحجرك.
ومضت الأيام..
ثم جاءت تلك الشعلة التي أضاءت في درعا البلد، كأننا حسبناها شعلةً، وإذ بها شمساً مستنيرة:
”شمس الحرية طلعت من درعا البلد“
طلعت بحقٍّ.. وأبىٰ الشيخ إلا أن يحضر شروقها، ما كفاه أنه وقد جلس في هرمه يصلح ذات بين الناس، ويسعىٰ ليكون واسطة العقد بين المخالفين، ويزيل بعض شوائبهم التي نحرتهم.
ما كفاه ذاك، فخرج مع شباب القرية يتظاهرون ضد الطغيان. ثاروا علىٰ ذاك الظالم القابع في دمشق. فما يحتمل الرجل الظلم علىٰ نفسه ثم يسكت عن ظلم غيره؛ فإن فعل، فإن لفيه خصلةً من النفاق، وما كان الشيخ عبد المجيد إلا رجلٌ شهد له أهل حوران بالصدق. فعاش عليه ومات... حتىٰ جاءت تلك اللحظة.
ذاك أنه عاد إلىٰ الدار.. آه لو رأيتمُ الدار، دعوني أصفها لكم لاحقاً، وإني إن ومسّني الضرّ يوماً -لا قدّر الله-؛ فما يُطيبني إلا نسمات العشي في فنائها. آهٍ لو أني لي بتلك الأيام كرّةً أخرىٰ.
عاد الشيخ، وقد سمع أصوات القصف قد بدأت، كان الظالم القابع في دمشق لا يهنأُ له بالٌ ولا يطيب له خاطرٌ أن يرىٰ مظاهرةً تقوم ضدّه، حتىٰ ولو كانت قريةً في أقاصي الجنوب، لا يتعدىٰ سكّانها ١٥ ألفاً، ثلثيهم مغتربين. فأمر جنده في كناكر أن يصوّبوا حقدهم علىٰ تلكم القرية.
نزل من سيارته التي من نوع (الڤان)، نظر برهةً.. ثم وقعت القذيفة علىٰ مبعدٍ منه. لكن حقد النصيرية أزيد من هذا. فبعد سقوطها، انفجرت من حمّها فخرجت الشظايا تصيب ظهر، وقد رُشِم كما يُمسك الرجل الماء يسكبه علىٰ غيره. ثم هوىٰ علىٰ الأرض.
لحظتئذٍ تخرج زوجه، وهي التي تصغره بثلاثة أعوام، لترىٰ ما حدث، ومعها حفيدها، وزوج ابنه. لتستعر تلك القذيفة، فتنفجر مرّةً أخرىٰ، فتُصاب من أمامها فتخرّ علىٰ الأرض، وزوج ابنها، أما حفيدها.. فقد أُصيب من رأسه فخرّ صريعاً من لحظته. لم يطل موته إلىٰ ذاك الحدّ كان كلمح البصر أو أقرب.
لا أعرف هل يكون الموت رحمةً؟
هرع الناس إلىٰ مكان الحادث، رأىٰ المصابون علىٰ حالهم، وواحدهم بين غائب عن الوعي، وبين متجرّعٍ للآلام. فأخذوهم واحداً واحداً، وقد تبيّن لهم مفارقة الطفل الحياة. أما الكبار مازال فيهم الرمق. أُخِذوا إلىٰ مشفىٰ السويداء.
وهناك حدث ما حدث ما تحمّل الشيخ أكثر مما احتمل، ففارق دنياه التي لم يجعلها الله إلا للتعب: ﴿لقد خلقنا الإنسان في كَبَد﴾².
كان صاحبكم قد أومأ إليه والده أن يذهب ويقدم بعلب الماء من البقال، فذهب وفيهم شيءٌ من حزن فقْدِ ابن عمهم، وفيهم من الأسىٰ الذي جعلوا يغالبونه بالنسيان. ثم ما فتأت الدنيا إلا أن تفجعهم بالأَمَرّ. عادوا إلىٰ البيت، وكان المشهد مختلفاً.
ففي خبر ابن عمّه كان يرىٰ الدموع علىٰ أجفان أخواته الصغار، وفي عيني أمّه، أما الآن يراها في الكبار، وفي الرجال الأشدّاء الأفذاذ. أحسّ أنّ خبر جدّه أتىٰ، لكنه جعل يدفع ذاك الظن بحس التأكّد= عَلّهُم رقّوا لحال والد الطفل، فجعلوا يبكونه ألماً وحزناً. ولكن ما هذا بمنطق، قد مضىٰ علىٰ الخبر ساعات وساعات.
يسألون قريبهم: ما الخطب؟ قل لنا ما حدث؟
- جدّك عبد المجيد..
- ما به؟ ما شأنه؟
- استشهد، ولم يحتمل الوجع.
وكأنّ الحياة أظلمت لحظتها. كأن صاحبكم قد فتح عيناه وما أحسّ أن النور يدخلها فيرىٰ ما حوله. شعَرَ أن الرؤية تضيق أكثر فأكثر.. لم يدرِ علىٰ الحقيقة ما شعوره.. أالحزن؟ أم الصدمة؟ أم الفجع؟ أم الجزع؟ أم الألم؟ أم تخيّل العيش دون الجدّ الذي علىٰ بعض قسوته كان ذا قلبٍ رحيمٍ عطوفٍ، وروحٌ سمحاء رقيقةٌ.
ما عرف ما يصنع؟ وما عاد يُدرك ما يفعل؟ ثم لم يدرِ كيف رفع السمّاعة يخبر أمّه بالحادث.
أما جدّته.. فما زالت فيها حياةٌ والحمد لله لا حُرِمناها بركةً وحناناً.. ولا أدري، هل تشعر هي بذلك!
لا أقدر علىٰ إكمال الكلام أكثر
أحبَــــــرَها بدموع الحزن، وأحقاد الثأر فــــي كوتاهيا، تركيا
حفيد الشيخ الشهيد أبو نذير عبد المجيد بن مُحمّد الرفاعي
أبو هاشـــــم مُحمّد بن يحيىٰ بن عبد المجيد الرفاعي الأُمّي
في مطلع ليــلة الإثنيـن ١١ صفر ٤٥ه الــموافــــق ٢٧ آب ٢٣م
ــــــــــــــــــــــــ
¹: صحيح البخاري.
²: سورة البلد، الآية ٤.
رحمه الله وغفر له سوريا قدمت الكثير من الشهداء من شيوخ وكبار وصغار
ردحذف