قصّة قصيرة: مستشفىٰ المحترمين


- النجدة.. النجدة
- نعم، من المتصل؟
- حالةٌ عاجلةٌ، أرسلوا لنا سيّارة إسعاف إلينا، أخي مصابٌ.. لقد.. لقد تعرض لحادثٍ لتوّه.
- نعم نعم.. انتظر قليلاً علىٰ الخط.
- بسرعة لا تتأخروا..
- ما اسمك؟
- ماذا تريدن باسمي! أرسلي سيّارةً وسأُخبركِ لاحقاً.
- سيدي المحترم، نرجوا أن تتعاون معنا، نحتاج اسمك لضرورة الموقف. نرجوا أن تتفهم ذلك.
- *** عليكم وعلىٰ اسمي، وعلىٰ التعاون، وعلىٰ الموقف.. ألا تفهمون أخي سيموت ائتوني بسيارة إسعافٍ علىٰ الفور.
- سيدي المحترم، أرجوا أن تكون لبقاً في الحديث معنا، وإلا سيعرضك ذلك للمساءلة القانونيّة، بتهمة الإساءة إلىٰ الكادر الطبي، وذلك حسب المادة الرابعة من القانون الـ..
- طيب.. طيب.. فهمنا، اسمي عبدو عابدين.
- حسناً.. ثانيةً واحدة.. كم العمر؟
- يا رب تكوني بتمزحي.
- لم أسمع جيداً.. هلّا أعدت؟
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الله يجيبك يا طولة البال.

يتدخل جابر: وك عبدو.. أعطيها عمرك بسرعة، حوقل بعدين.
- سيدي المحترم هل تسمعني؟
- طيب.. طيب.. عمري ٢٧ سنة.
- اسم الأب؟
- عمر.
- اسم الأم؟
- سعديّة.
- انتظر ثانيةً..
- أمَا تريدين اسم جارتنا؟
- لا، لا نحتاج إليه. ما اسم المصاب؟
- لن يكون هناك من داعٍ، لربما مات. انتظري قليلاً.. حسناً ما زال حيّاً.. اسمه علي.
- اسم والده؟
- هو أخي يا الآنسة، أباه أبي، وأمّه أمّي.
- فهمت فهمت.. ربع ساعة وستكون سيارة الإسعاف عندكم. نرجوا لكم الشفاء العاجل.
- خبريهم لا يستعجلوا.. علىٰ أقل من مهلهم.. ما في شي ورانا.
- أفعل إن شاء الله.
- ......

كان علي وعبدو وصاحبهما جابر قد انطلقا إلىٰ البريّة كعادتهم في عطلة نهاية الاسبوع، حتىٰ حدث لهم ذاك الحادث المريع، ولكن الحمد لله لم يُصَب جابر ولا عبدو، أم علي فلأنّه كان السائق قد أصيب، لكنها ليست إصابةً خطيرة التي تُزهِق روحه. وبحسب عبدو كان ألمُ تحدّثه مع موظّفة الاستقبال أعتىٰ وأنكىٰ من حادث أخيه علي.
وصلت السيارة، وكادت أن تصطدم بجابر، الذي انشغل بعدها بكيل الشتائم للسائق:
- يا ابن *****، *** علىٰ اللي علّمك القيادة.
- سيدي المحترم، أرجوا أن تكون لبقاً في الحديث معنا، وإلا سيعرضك ذلك للمساءلة القانونيّة، بتهمة الإساءة إلىٰ الكادر الطبي، وذلك حسب المادة الرابعة من القانون الـ..
- *** عليك، وعلىٰ المادة، وعلىٰ القانون يا ابن الـ..
تدخل عبدو: حسناً حسناً.. جابر، علىٰ رسلك، الآن لنهتمّ بأمر علي، ثم يمكنك بعدها أن تستمر بالشتائم.

حَمَلوا جميعاً علي، ثم استطاع فقط عبدو أن يصعد مع أخيه إلىٰ السيارة، أما جابر فلم يقدر لضيقها، فاضطر أن يركب سيارة الأجرة ويلحق بهما إلىٰ المستشفىٰ. كان المشفىٰ علىٰ مقربةٍ من مكان الحادث، لا يبعد إلا أقل من عشرة دقائق. وحين سأل عبدو الممرض لمَ كل هذا التأخير، وهم بهذا القرب. أجابه بأنّه: كانوا يملؤون السيارة بالبنزين، إذ قد فرغ المخزن!
بدا علىٰ مُحيّا عبزو ملامح الغضب، وكأنّه همّ بالشتم! هنا استدرك الممرض ذلك، بعد أن رأىٰ وجهه، وأومأَ إليه قائلاً: سيدي المحترم، أرجوا أن تكون لبقاً في الحديث معنا، وإلا سيعرضك ذلك للمساءلة القانونيّة، بتهمة الإساءة إلىٰ الكادر الطبي، وذلك حسب المادة الرابعة من القانون الـ..
- اسمع لا تخليني ابتلىٰ فيك.. اسكت فهمنا.

وصلوا إلىٰ المستشفىٰ، وبسرعةٍ قصوىٰ أخذوا ينزلانه، وانتظرا حتىٰ يقدم بعض الممرضين بالسرير المتحرك، الذين كان لامرأةٌ عجوز بلغت السبعين لتكون أسرع منهم!
أراد أن يشتم.. لكنّه خشي تلك الاسطوانة المكررة الفارغة الذين لا يملّوا من إعادة قولها. وقد بدا علىٰ مُحيّاه أمارة نفس الغضب. فقال له نفس الممرض: سيدي المحترم، أرجوا أن تكون لبقاً في الحـ..
- اقسم بالله إذا أكملت الجملة؛ لأضعنك في نفس السرير.

جاء السرير، وكان أيضاً لتوّه قد وصل جابر، فوضعوه عليه، وانطلقوا به إلىٰ غرفة الحوادث العاجلة. منعه هناك رجل، وقال له: سيد يالمحترم، أرجو منك أن تنتظر حتىٰ يخرج الطبيب. أراد عبدو أن يشتم.. لكن.. لكنه قد تعب.
جاء الطبيب، وشرح له عبدو الوضع، أخذ الطبيب ينظر بطريقةٍ مائلةٍ غريبة، ثم صدع يقول: حسناً. الوضع ليس بذلك الخطر. ولكن يا سيدي المحترم أرجو أن..
انفعل عبدو قائلاً: ما شتمتك.. أقسم بربي إن أكملت الجملة لأطرحنّك أرضاً!
رد عليه الطبيب: لم أفهم، أردت أن أقول يجب أن تذهب إلىٰ المحاسب لتدفع أولاً.
- حسناً.. أنت ابدأ بعلاجه وأنا سأدفع.
- لا يجوز يا سيدي المحترم، القانون يقول ذلك. فبحسب المادة الثانية من القانون الأول: يجب أن يدفع المريض لقاء علاجه قبل أن يشرع في العلاج إن لم يكن لديه تأميناً صحّياً كا..
- لكنّه لديه تأمينٌ صحي.
- نعم لذلك هناك تكملة للقانون: إن لم يكن لديه تأميناً صحّياً كاملاً، وأنت هنا وافداً ولست مواطناً، والوافد لا يمكن أن يكون تأمينه كاملاً. لذلك اذهب وادفع ولا تجعلني أتحمّل تبعات مخالفة القانون، إذ إن مخالفته ستعرضني للمساءلة القانونيّة، بتهمة مخالفة القانون، وذلك حسب المادة السادسة من القانون السادس يا سيدي المحترم.
- تمام.. تمام.. سأذهب لأدفع.

انطلق عبدو راشداً إلىٰ المحاسب، بعد أن سأله عن مكانه، فأخبره أنّه بنهاية الممر. استنكر بُعده، وقال: لو أنّكَ تُخبرهم أن يجعلوه خارج المشفىٰ ألم يكن أفضل؟
رد الطبيب: أفعل إن شاء الله.

وصل أحمد، وقد ترك جابر عند أخيه، فما وجد المحاسب، سأل عامل النظافة عنه، قال لعلّه ذهب ليقضي حاجته ويتوضّأ، أو لربما.. انتظر قليلاً.. كم الساعة؟
- الساعة ١٠.
- نعم.. نعم، ربما ذهبَ ليُصلي صلاة العشاء.
- لقد مضىٰ عليها الكثير.. كيف.. لمَ.. دعك منه الآن، أيمكنني أن أدفع لك أو لغيرك وتعطيني الوصل؟
- لا، لا يمكنني، أنا مجرّد عامل نظافة.
- وماذا سأفعل، أخي يصارع الموت، ويجب أن أدفع ليشرع الطبيب في علاجه.
- انتظر ريثما يأتي المحاسب، لن يتأخر كثيراً.. فهو سريع الصلاة.

شرع عبدو يكرر الشتائم: *** علىٰ المشفىٰ، وعلىٰ المحاسب، وعلىٰ الطبيب..
- سيدي المحترم، أرجوا أن تكون لبقاً في الحديث معنا، وإلا سيعـ..
- و*** عليك كمان.
وإلا سيعرضك ذلك لمساءلة قانونيّة، بتهمة الإساءة إلىٰ الكادر الطبي، وذلك حسب المادة الرابعة من القانون الـ..

هَمّ عبدو بضربه، إلا أن المحاسب قد عاد. فأراد أن يشتمه ولكن تريّث، وعزم في قرار نفسه أنه سيشتمه بعد الانتهاء من مشكلة أخيه.
- تقبّل الله يا شيخ. ولكن.. لا عليك. كم الحساب.
- لأي شيء؟
- أخي تعرض لحادث.
- اها.. كم عمره؟
- اللهم أنت ربي لا إله إلت أنت.. عمره ٢٥ سنة.
- ذكر أم أنثىٰ؟
- لا هذا ولا ذاك..
- نعم؟
- ذكر.. ذكر.. لا حول ولا قوّة إلا بالله.
- الحساب عليك: ٦٠٠ دولار.
- ماذا؟! أستستبدلون قدمه بأخرىٰ جديدة!
- لا شأن لي يا ولدي. هذه هي أسعار الحكومة، أنا لا أتدخّل.

دفع أحمد المبلغ، وغيظه يزداد، وعنفوان غضبه يستعر أكثر فأكثر، وفي خِضمّ ذلك شرع يشتم الحكومة غير جاهرٍ ولا مخافت. فاستلم الوصل، واستمر بشتم الحكومة، كذلك شتم اليهـ.ود، إذ شعر أنّهم يستحقون هذه الدرجة من الشتائم.
ثم توجّه إلىٰ الطبيب وهو يلهث، وأنفاسه تتقطع، وأحس بأنّه لو يحجز لنفسه سريراً بعد ارتفع ضغطه لَمَا أخطأ، ولأصاب وأجدىٰ.

قال له الطبيب، بعد أن استلم الوصل: حسناً.. هيا اجلبوه إليّ في الطابق الثاني.
- لحظةً واحدةً.. هل تضعون الحوادث في الطابق الثاني؟
- نعم، أين سنضعه إن لم نفعل.
- الطابق الأرضي مثلاً..
- لا، الطابق الأول لمرضىٰ العيون لأنهم ربما يتعثّرون في الصعود.
تدخّل الممرض: كذلك مرضىٰ الأسنان.
- ولم تضعونهم هم أيضاّ في الطابق الأرضي؟
- لا أعلم، ربما ليؤنسوا مرضىٰ العيون.

تعب عبدو من الشتائم، وقد شعر أنه استنفذها كلّها، وكان عاهد نفسه أن لا يُسري علىٰ لسانه شتائم أخرىٰ بعد الذي كالها إلىٰ موظف الإقامات وشؤون الهجرة قبل سنتين.

وصلوا إلىٰ الغرفة، وأخذ الطبيب يعالجه، وما إن أتمّ العلاج. أخبره أن يصعد به إلىٰ الطابق الثالث إلىٰ طبيب العظام. كان قد أهمّ عبدو بالاستنكار علىٰ سبب وضعهم طبيب العظام بالطابق الأخير. ولكنه علِم أن سؤاله فارغ بعد الذي لاقاه منهم. وصلا إلىٰ طبيب العظام، وشرع يجبّر له ساقه، كذلك أنفه.

وبعد قرابة عشر ساعةٍ، سمح لهم الطبيب بالانصراف، وأخبرهم ألا يزيلو التجبيرة أبداً. وإن أراد الاستحمام؛ فإبمكانه ذلك مع تغليف الجبيرة بكيسٍ بلاستيكي. هذا فحسب.

نزلوا جميعاً، وهمّوا بالإنصراف، وأخذ يبتسم في وجوه الجميع، وهو يتمتم بالشتائم عليهم. عاونه في ذلك جابر، وذكّره ببعض الشتائم التي نسيها. وعلىٰ الباب استوقفتهم موظّفة الاستقبال، وقالت: سيدي المحترم، أرجوا أن تكونوا قد استمتعم بتواجدكم لدينا في هذا المشفىٰ، ونتمنىٰ عل
يكم أن تدخلوا إلىٰ موقعنا علىٰ خرائط جوجل وتقيّموا لنا المشفىٰ بالعلامة الكاملة. إلىٰ اللقاء مرّةً أخرىٰ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

اليوم الثّالث: أصعب قرار اتّخذتُه

اليوم السّادس: الخطأ الذي لن أعاوده