مولِدي أم مَحيايَ؟



وقد بتّ لا أعلمني إلا مُتأملاً من ربي أن إذا ما مالَ الناس عن عوايدهم، وركنوا إلىٰ غير ما عهدوه، وزهدوا بطريق الحقّ، ومنهاج الصراط المستقيم؛ ألا أميد كما مادوا، وأنا أبقىٰ علىٰ العهد والميثاق، كالشامخات الراسيات العاليات. وأنٍ كلما مرّ عامٌ علىٰ مولدي؛ أن أبقىٰ فيه كما أنا.. ألا أتغير ولا أتبدّل. أنا أكون كما أنا مُحمّد بن يحيىٰ بن عبد المجيد، الرفاعي الحسيني الهاشمي نسباً، الأمي موطناً، الكوتاهِيْ مقاماً. وألا أخرج عن الطريق الذي اختاره لي ربي قيد أنملة، وألا أتزحزح عنه ولا أترنّح، ولا أصير فيه في شكٍّ من أمري بين الإقدام والإبطاء، وتروٍّ وإعجال، أن أسير فيه كما يسير السحاب، خطوةً بخطوةٍ، وباعاً بباع. هذا ما آمل.

أما ما سأقول، فقد حُكي لي أنما ولدت في السادس من شهر جمادىٰ الأولىٰ لسنة ١٤٢١ه‍، الموافق السادس من شهر آب لسنة ٢٠٠٠ للميلاد. في ساعات الصباح الباكرة، وقد قُرّر لي أن يكون مسقط رأسي ليس قريتي قرية أم ولد، بل جارتها قرية الكرك الشرقي. ولم يكن أهل الطب الحديث هم دايتي؛ بل امرأةً أحسبها كأم زكي، وأحسب أيضاً أن كل الدايات كأم زكي.

وقد قرأت ذات مرّة سؤالاً توجّستُ منه، أنه: متىٰ يحيا الإنسان حقاً؟ أعني نحن نعلم أن الله يدبّ الروح في تلك المضغة وهو في الثالث في بطن أمّه، ثم يخرج إلىٰ الدنيا في التاسع. ولكن هذا مولدٌ فحسب، أولست حياتنا عبارةً عن وعيٍّ بالذات؟ أن يعيَ المرء أنه يحيا حقاً، وأن الناس هم بشرٌ مثله، وهم أيضاً أحياء كما هو كذلك. وأن أمّه هي أمّه، وأبوه هو أبوه، والأطفال الأُخر الذين تلدهم أمه هم أيضاً إخوته.
هذا جزءٌ من الوعي، فمتىٰ يعي الإنسان؟ ومتىٰ يُقال عنه واعياً؟
لا أدري علىٰ وجه الحقيقة متىٰ صار وعيي الأول بحياتي. ربما في عامي الثالث، أو الرابع، أو الخامس، أو السادس. أحسب أنه لا يخرج من إحدىٰ تلكم السنين.
لكنني علىٰ يقين أن هذا الوعي الأولي ليس وعييَ الكامل الذي أنا الآن عليه، أو أحسبني عليه. يُخيّل إليّ أن هناك عدة لحظات شكّلت وعييَ هذا:

فثانيه (وهو الأول منطقياً) حين استُشهِد جدي الشيخ عبد المجيد بن محمد بن سرور الرفاعي (٦٧ ربيعاً أنذاك)، وابن عمي عبد العزيز بن بشير بن عبد المجيد الرفاعي (١٢ ربيعاً أنذاك). حينذاك تعرّفت لأول مرةٍ علىٰ الموت. زار من أحب، وأخذ ملكُ الموت أرواحهم. حينها تأكدت؛ أن بعد الحياة موتٌ، وأن موتهم ذاك إنما هو في الأرض، أن حياتهم فعند باريها.
وثالثه: حينما وجدتُ أبا الحسن في حالٍ.. لا أختار ذكره. فقد ألمتُ لذاك أيما ألمٍ.
ورابعه: في الخامس من ذي القعدة لسنة ١٤٤٠ للهجرة، الموافق الثامن من شهر تموز لعام ٢٠١٩ للميلاد، حينما ودّعتُ أبي وأمّي وجدّتي لأمّي وإخوتي من المطار، تاركاً الكويت، وعشر سنين من النعيم الذي ما حفظتُ قدره إلا بعد فوات الأوان. مُتّجهاً إلىٰ تركيا، لوحدي، لا أحد معي غير الله. لا أحد.. لا أحد.. كان تسري عليّ ساعاتٍ أشعر بها بالوحدة، وأشعر أنما قلبي قد انقبضَ علىٰ نفسه، وروحي انكمشَت حتىٰ ضيق صدري، وما ينطق لساني. وبتُّ في سويعاتٍ وكأنني بالعَبَرات تغزوا أجفاني، أمنعها حيناً، وأُغلب حيناً آخر. كان ذاك أكبر وعيٍّ بعد الذي سأُورده.. وهو الأخير، ولا أظنّه آخراً.

خامسه: حينما عزمتُ علىٰ أن أقرأ. ليلة السادس من جمادىٰ الأولىٰ ١٤٤١ للهجرة (بعد عشرين سنةً هجريةً من مولدي بالتمام والكمال) الأول من كانون الثاني لعام ٢٠٢٠ للميلاد. نعم كنتُ قبل ذلك أقرأ؛ لكنما تلكم القراءات ما كانت بقراءةٍ حقاً، كانت لهواً ولعباً، كانت هوايةً فحسب. وأنا -يعلم من يعلم-: أرىٰ القراءة أسلوب حياةٍ؛ وليست هوايةً، فما هي بشيءٍ ثانويٍّ في حياة المرء؛ بل عمادُ أمره، وسنان عقله، ودم قلبه، وصفاء روحه. تلك الليلة أردتُ بها أن أنزع ردائي القديم.. ذاك الذي أسميه (مْحَمّد) بدون ضم الميم الأولىٰ -تماماً كما تُنطق بالعامية-. ثم ارتديت ردائي الجديد (مُحمّد) بضم الميم الأولىٰ -كما تُنطق بالفصحىٰ-؛ فالأول فيه ضغفٌ وجهلٌ وعمىٰ؛ فجاء الثاني فقوّىٰ ما ضعُف، وأصلح ما جهل، وأنار ما عُمِي.
جعل الله قادم عمري خيراً من أوّله، وأنعمني بفضله وكرمه، وأسبغ عليّ عطايا رحمته، وجعلني وإياكم في ظِلال جنّته. وجعلني فداءً للأُمّة.

- مُحمّد.. عبدُ خالقه جل شانه، 
وتقدّست أسماؤه.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١