قصّة قصيرة: تُهَم الأستاذ رِفعت

 

- حضرة القاضي، دعك من ثرثرة المحامين، ومن سَفْسَطاتهم، فكلامهم هذا لا يعدو إلا أن يكون كلماتٍ وُضِعت لهم ليُرتبوها علىٰ نحوٍ يَصبُون فيه أن يستميلوا قلوب من في القاعة.
إن الأستاذ رفعت قد ارتكبَ جريمةً يندىٰ لها الجبين، وتخرّ لها القلوب حزناً وكآبةً، وتعتصر -بما حل- الروح كمداً وندامةً. لقد صنع بأمواله تلك امبراطوريةً عُظمىٰ؛ حتىٰ غزت العالم، وتمدّدت وتفرّعت، وصارت كما الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، أو دعنا نقول لا يغيبُ عنها القمر. حسِب الأستاذ رفعت -والذي أصفه بالأستاذ احتراماً وتوقيراً لحضرة أعضاء المحكمة لا أكثر- أنّه تفرعَن وتسلطن، وأنّه يستطيع بأمواله تلك التي يُصنع منها جبالاً من شاكلة أُحد، وسهولاً كسهول حوران، وبُحيراتٍ من مثلِ طبريّة، وأنهراً مثل النيل، وأنه سيملأ الأرض بصيته فتخضع له رقاب الناس، وتُعفَّر له أنوفهم، وتُذلّ له جباههم، بالشدّة تارةً، ويعقبها اللين طوراً آخر.
لا يا سادة، لا تنخدعوا بهاذا الوجه البشوش، ولا تلك السنحة البيضاء، ولا ذاك اللسان المعسول، الذي يقطرُ حلاوةً وطلاوةً.
لا يا أيها السادة المحترمون، لا يخدعنّكم هذا الكريم، ولا يصرفنّكم عن واقع الأمر الجللِ، وهذا الخطب الذي عمّ البلاء به، وتداعت به دولتنا العُليا، وانصرف الناس وهم يخافون أن تخطّفهم الطير لِما صنع. وهم بين مكذّبٍ أن يكون الأستاذ رفعت قد اقترفها، وبين مُصدّقٍ لتلكُم التهمة؛ إذ لا يرىٰ عصمةَ غير الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
لا يا أيها السادة المبجلون، لا يغرنّكم طلعته البهيّة، وقسماتِ وجهه الأزهريّة، ورائحته الفواحة الزكيّة. إن الأستاذ رفعت الموقّر قد عَدا علىٰ حضارةٍ من حضارات الأرض، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها من الحجارة والرمال ما سُوّيَت الأرض بعمرانها، وصارت أطلالاً بعد أن كانت صرحاً عالياً مشهوداً ملأ الدنيا جمالاً ورونقاً وبهاءً. لقد كان بغيهُ قد وصلَ حدّاً لو وُزِن فعله بما حدث لهيروشيما وناجازاكي؛ لرجحت كفته، ولظهر وزنه من الذنب والإثم.

لقد جئتُ يا حضرة القاضي، ووجهاء المدينة أوكلوا إليّ مهمّة الدفاع عن مستقبل هذه البلاد، والجبّ عنها، وإنزال الناس في منازلهم التي هم لها أهلٌ. وقد انضوىٰ بينهم بعض أهل الأهواء والأغواض، ليحثّوني علىٰ فتح قضايا سابقةً أُثيرَت حول الأستاذ رفعت الموقّر إبان تولّيه منصب وزير المالية، وعن إشاعاتٍ قد انتشرت أنذاك، وما زالت تلقىٰ صدىٰ -وأنا أنقلها يا سيادة القاضي دون إيماني بصحّتها فناقل الكفر ليس بكافر كما علّمنا ديننا الحنيف-، وتلك الإشاعات؛ هي عن اختلاسه من أموال المناقصات التي طُرحت من أجل بناء سككِ حديدٍ ومطاراتٍ داخليّةٍ. وعن إيكاله بالتعاون مع وزير الصناعة مناقصةَ سككِ الحديد بين العاصمة والمدن الشمالية إلىٰ شركةٍ فاسدةٍ، مما تسبّب في مقتل ١٠٠ من الأنفس الزكيّة الطاهرةِ البريئة! ولكن أخبرني يا سيادة القاضي، هل يُلام الوزير علىٰ هذا الفساد؟ هو لم يقصد أن يهبَ تلكَ المناقصة لشركةٍ فاسدةٍ، حتىٰ وإن كانت هذه الشركة لعديله الأستاذ رامي، إنما كان مقصده الخير لوطنه وأبناء شعبه، فكيف نحسبه سيقترف هكذا جريمةٍ شنعاء! معاذ الله. إن الأستاذ رفعت مثالٌ للخُلُق الحسن، والأفعال الكريمة، واليد المعطاءِ السخيّة. ثم إنّه قد تكفّل بعوائل القتلىٰ الذين خُلّفوا في حادث اصدام القطارات الأليم، وأعطىٰ كل واحدٍ منهم سلةً غذائيّةً شهريّةً، وصرف لهم معوناتٍ ليشتركوا بباقة انترنت فيُسلّيهم ذاك، ويُنسيهم بعض ما حلّ بهم. أفيكون صاحب هذا الجود رجلاً فاسداً! لا، معاذ الله.

ثم لم يكفِ أؤلئك الغوغاء أن يدفعوني للنيّلِ من جناب الأستاذ رفعت المحترم، بل أومأوا إليّ بأن أثير قضيةَ العبّارة السياحيّة التي غرقت علىٰ شواطئ الساحل، وخلّفت ٥٦ قتيلاً يرحمهم الله. لكنني رفضتُ ذلك.. هل تعرفون لماذا؟ لأن الأستاذ والأخ رفعت بريءٌ من هذه الأفعال الموحشة، وهذه الأخطاء لا تكنّ له بصلة. صحيحٌ أن العبّارة تتبع لشركته السياحية العالمية، وأنه اشتراها من الشركة الفرنسية، لكنّه اشتراها بسعر زهيدٍ، قُرابة ثلث الثمن أو أقل؛ أحسب أن هذا هو السبب الذي دفع الناقمين علىٰ الأستاذ رفعت، الحاقدين عليه، الحاسدين لرزقه بأن يقولوا أنه: ما أخذها بثلث الثمن إلا لأنها عُطبَت وخُرِقت من قبل، فهي متهالكةٌ قديمة. وإلا لماذا ستبيع الشركة العَبّارة بهذا الثمن؟
من يدري يا سعادة القاضي، ربما غرقَت بسبب خطأ قُبطان السفينة، ربما بسبب أنه اصطدم بالمرسىٰ لا أكثر. فلمَ يُحمّلونَ الأمر فوق طاقته!

وكذلك شرعوا في دس وثائقَ تُدين -بزعمهم- الأخ الحبيب المحترم الأستاذ رفعت بأنّ منشأته السكنيّة التي بناها في العاصمة قُرب الجبل، قد هُدم معضمها بفعل الزلزال الذي حلّ قبل عامين؛ لأنها لم تُبنىٰ علىٰ أساس معايير مقاومة الكوارث؛ من زلالزلَ، وأعاصير، وفيضانات.. إلخ. وهذا والله عجبٌ، فما الذي يصمد أمام الزلزال؟ إن الزلازل إن هي إلا جندٌ من جنود الله ﷻ، فإن شاء ابتلىٰ بها عباده ليختبر صبرهُم واستعدادهُم لتسليم أنفسهم لباريها سبحانه وتعالىٰ، أو عذاباً يُنزله الله علىٰ قومٍ طغوا في الأرض وتجبروا، وبَطروا فيها، وأهلكوا الزرع والضرع بكثرة فسادهم في الأكل وذاك الجشع المقيت الذي أسقمهم وأضناهم. فإن كان بلاءً؛ فالواجب الصبر، لا أن نعترض علىٰ قدر الله، وإن كان عقاباً؛ فحريٌّ بنا أن نتوب إلىٰ ربنا، ونُقلِع عن اتهام الناس بالباطل دون أي دليلٍ أو برهان. اعتبروا يا أولي الألباب.. اعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم إن بعض الناس اتهموني في نفسي لأنني أُدافع عن الأستاذ رفعت لأنه صهري زوج أختي، وأنه زميلي في الكلية في إحدىٰ جامعات روسيا الشقيقة! أيعقل هذا، ألأِنّه كان زميلي، وهو الآن صهري يزعمون أني أدافع عنه! هذا وأنا أُمَثّل الإدعاء العام. وإنما كان رفضي للقضايا السابقة بدافع ردّ الإشاعات، وإثبات حقيقة أن المتّهم بريء حتىٰ تُثبت إدانته، بصرف النظر عن قرابة الرجل مني أو صحبته.

ثم إن فتحي لهذه القضية، وقيامي بها، ومواجهتي لصاحبي الأستاذ رفعت خيرُ مثالٍ وبرهانٍ علىٰ أنني لا أُداهِن أحداً، ولا أضع أحداً وإن كان من قرابتي أو صحبتي فوق القانون، ولا أخاف بالله لومةَ لائمٍ، وأن الحقّ يُقام علىٰ الكبير قبل الصغير، والقوي قبل الضعيف، والشريف قبل الوضيع، وأن العدلئ سيأخذُ مجراه، ولا أحد فوق القانون. وكما قال سيدنا عمر -رضي الله عنه-: "العدل أساس الملك".
وبعد أن أوردت لائحة الاتهام الذي وجّهناها نحن مقام النيابة العامة: نطالب المحكمة بأن يدفع الأستاذ المحترم الموقّر رفعت غرامةٍ قدرها ١٠٠٠ ليرةٍ ذهبيّة لصالح حديقة الحيوان الذي دمّر بها مملكة النمل، وكذلك تعويض قدره ١٠٠ ليرة فضّيّة لصالح عائلة الأخ أسعد لصيده زوج الطير اللذان كانوا يربوهما، بالإضافة إلىٰ تعويض أسرة معاذ أبو راسين لدعسه ابنهم معاذ خطأً وسهواً بمبلغ ١٠ ليرات ذهبيّة. هذا ونطالب بإيقاع أقسىٰ العقوبات، وأن لا يُرحم الأستاذ رفعت، وأن يكون عبرةً لمن اعتبر، ومثالاً لمن امتثل.

شكراً سيادة القاضي. شكراً للأستاذ المحترم الموقر الأستاذ رفعت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١