قصّة قصيرة: أشعّة الشمس



كان «سائراً» يسيرُ في طريقه إلىٰ المكتبةِ التي منىٰ إليها حين حطّ رحَلَه في المدينة سائحاً زائراً. وقد عزَمَ هذه المرّة أن يزورها، بعد طول وقتٍ مضىٰ في الولاية التي لا يلقىٰ فيها مكتبةً عربيّةً واحدةً يسعدُ بها ولو قليلاً. وقد مكثَ في ولايته تلك يتجرّع المللَ والسأم، فأحبّ أن يُغيّر طعم السكون في حياته الرتيبة تلك، بين الجامعة والمنزل والمقهىٰ والجامع. هذه المكتبة التي لطالما أحبّها وهامَ بها، بمكانها الوسيط، ومجلسها الرّحِب، وتعدّد الكتب فيها، وأنواعها المُسْتسقاة من جميع ألوان العلوم والمعارف، المُرتّبة علىٰ نحوٍ يُغنيك عن الخروج منها، فكأنك تحب أن تلبثَ فيها ما شاء الله لكَ أن تلبثَ، وقد تاقَت نفسك إليها وأنت فيها، وما إن تخطو خارجها خطوةً حتىٰ تعود أدراجك مشتقاً إليها مُتلهّفاً، وأنت فيها كطفلٍ أبصرَ الحياة علىٰ حقيقتها، وقد حسِبَ أن بطنَ أمّه هو الدنيا فحسب، فما إن خرج؛ بُهر وتملّكه الذهول. كان هذا شأن «سائرٍ» مع الدنيا والمكتبة= فالدنيا هي بطنُ أمّه، والمكتبةُ هي الحياة بذاتِها.
وقد عذلَه الناس لذاكَ التوق الذي حازه، أو حِيزَ به، ولاموهُ أيًما لومٍ، وهو غير آبهٍ، بل مستكبرٌ علىٰ أقوالهِم، متغافلٌ عن نقودِهِم، مترفّعٌ عن أمذارهِم. وهو في ذلك يُردّد في خاطرِه أبيات ابن زريقٍ البغدادي:

لا تعذليه فإنّ العذلَ يُولِعهُ
قد قُلتِ حقّاً ولكن ليسَ يسمعُهُ

لكنّه كثيراً ما يُعدّلُ عجز البيت، فلا ينسب لهم حقانيّة عذلِهِم ذاك، ولا يعترف بقولهِم، بل ويستصغِر كلامهُم. فرأيهُ كرأي عَلمُ الدين ابن الهاشميَّة‏‎: ”الغُلو في الكتبِ عدلٌ وإنصاف“.
سار إليها وقد أضنتهُ اختباراته، وعكّرت بعض صفوهِ، وامتزج شعورهُ بين فرحٍ بلُقيا المكتبة، وتعاسة مُخلّفات الجامعة. وفي طريقه إلىٰ هناك، التمست عيناهُ أحرُفاً عربيّةً، وقد ذُهِل لذلك، إذ قد علِم آنفاً أن الأحرف العربيّة ممنوعةٌ في هذا البلد. برّر أهل البلد فعلهم ذاك؛ أنهم إنما يحاربون وضع الإعلانات واللافتات بلغةٍ أجنبية، لكنهم أخطأوا من حيث أنهم ظنوا؛ ما هنالك من لغةٍ أجنبيّةٍ غير العربيّة.. فالإنجليزيّة والروسيّة واليونانيّة أولاد عمومةٍ وخؤولةٍ. فرفع هاتفه، وفتح قُمرته، وأحبّ أن يلتقط صورةً لهذه اللحظة العظيمة.

بريب أن الشمس تحوز بينه وبين مأربه، فقد باغتته أشعّة الشمس تحرقُ وجهه، وتفقأُ عينه بلذعتِها ولسعتِها. قاوم هذا بوضع يده يحجز الأشعّة عنها. وهناك.. علىٰ مرمىٰ البصر، لمحه من بعيدٍ يقربُ، رجلٌ يرتدي لباساً خُلِط الأخضر فيه بالبني، والأسود في جناباته يُزيّنه، وقبعةٌ تميل إلىٰ إحدىٰ أُذنيهِ عن الأخرىٰ، وشاربٍ كشارب المعلّم عمر في ليالي الصالحيّة، ووجهٌ فيه من القسوة ما لا تقدر علىٰ تأويل مشاعره، ولا معرفة تعابيرها من فرحٍ أو ترحٍ، أو غضبٍ وصخب. يُناديه بأعلىٰ صوته بالامتثال، وحين اقترب جرّه إليه، وأخذه إلىٰ حيث اللافتة. وصاحبنا لحظتئذٍ لا يدري ما الخطبُ، وما عَرَف ما يحدث!
- خاطبه الرجل: ماذا تفعلُ هنا؟ ولِمَ تلتقط صورة لهذه المنشئة الأمنيّة العسكريّة؟
- ماذا؟ منشأةٌ عسكريّةٌ! لم أكن أعلم، أقسم أنني لم أكن أعلمُ.. لقد كانت أشعّة الشمـ..
- صهٍ صهٍ، التفت إلىٰ الحائط.. انزع قبعتك تلك.. ارفع يديك.. أنزِل رأسك.. بسرعة بسرعة.
تملكه الذعر، وأخذ قلبه يخفق بدقّاتٍ ليست إلا دقّات قلبِ عدّاءٍ ركضَ ثلاثة آلاف مترٍ دون توقّف. وأخذ يفكّر في قرارة نفسه، ويحاول استيعاب الموقف، وإدراكَ الأمر. وهو يمتثل في آن الوقت للجندي بصورةٍ خارجةٍ عن إرادتهِ، لم يحتَجْ في ذلك الامتثال إلىٰ أي مجهودٍ يُذكر في بذل إرادته.
فعل ما أُريدَ منه، وأخذَ الجندي يُفتّشه، صعوداً وهبوطاً. لم يَذكُر «سائراً» من قبل أن فُتّشَ إلا في المطارات أو بعض المجمّعات؛ لأمورٍ تسري علىٰ الكل بالعادة. يعني أن ينتظر في طابورٍ، والناس علىٰ سواءٍ يُفتّشون
وهو في هذا الوقت حائر، تماماً كاِسْمِ والده. ثم قال له الجندي: افتح هاتفك.. واذهب إلىٰ ألبوم الصور. بسرعة.
أخذ «سائرٌ» يفعل ما أُمِر به، ثم خاطبهُ في خِضمً ذلك: أخي، أنا لم أكن أعلم أن هذه منشأةٌ عسكريةٌ أو أمنيّة. لقد صدّت الشمس عيني، ولم أرَ بوضوحٍ. ثم إنني طالبٌ جامعيٌّ في ولايةٍ أخرىٰ غير هذه. وجئتُ إلىٰ هنا بغرض السياحَةِ. فأنا ألتقطُ الصور يُمنةً ويُسرىٰ كأيّ سائحٍ عادي. هذا كل ما في الأمر.
- سنرىٰ.. سنرىٰ صدق قولك من كذبِه.
ثم نادىٰ علىٰ صاحبه، وقال له: تعالَ انظر في هاتف هذا المشكوك في أمره ماذا التقط من الصور. جاء صاحبه وأخذَ هاتف «سائرٍ»، وقلّب في الألبوم، ثم ذهب إلىٰ المحذوفات.. واستمر يبحثُ ويبحث، لكنه لم يجد شيئاً. وأثناء ذلك، أخذ صاحبنا يشرح لهذا الجندي الآخر معضلتهُ، وأنّه ما علِمَ بوجود المُنشأةِ، ولم يرَ اللافتة بشكلٍ صحيح.. إلخ. هي ذات التبريرات التي سَرَ دها للذي قبلَه.

ثم عاد الأول، وهو يُهاتف مديره في العمل، يبدو أنّه ضابطٌ أعلىٰ رتبةً منه، شرحَ له المسألةَ، أن هناك شابٌ مشكوكٌ في أمره، أتىٰ والتقط صورةً. واتضح أن الضابط أمره بجلب صاحبنا إليه ليتحقّق في أمره. و«سائرٌ» كلما سمع كلمة (مشكوكٌ في أمره)؛ ازداد توتّره، وأخذ الارتباكُ منه كل مأخذٍ، واعتراهُ العرق من جنبين؛ عرقُ الجزَعِ، مع عرَقِ حرارة الصيف اللاهبة. ثم أعاد القول له قائلاً: لقد أخبرتُ الصديق بمسألتي أننـ..
- من تقصد بالصديق؟
- ذاك الجندي الذي معك.
- نحن لسنا أصدقاءك، لا تخاطبنا هكذا. (بنبرةٍ فيها شدّة)
- وكيف أخطابكم؟ حقيقةً لا أعلم!
- قل أخي فحسب.
و«سائرٌ» في سريرته يُحدّث نفسه قائلاً: أهكذا يُعامل الأخ أخاه!

بعد دقائقَ من الانتظار، تحت وطأةِ الشمس من جهةٍ، ووطأة الخوف من القادم من جهةٍ أخرى.ٰ علىٰ أن الرجل الآخر كان أحنّ من الأول، وأرقّ فؤاداً، وأطيب نفساً منه، جعل يُطمئِن «سائراً» أنه لن يحدث له خطبُ، وأنّها: مجرد أسئلةٍ بسيطةٍ سيسألك إياها المدير، ثم ستنصرف ما إن يتبيّن له صدق قولك.
جاء رجلٌ بلباسٍ مدنيٍّ، واصطحبَ صاحبنا إلىٰ الداخل.. والداخل هاهنا لا أعني السجن بتعبير الأتراك بلغتهم، إنما داخل المكان. والمكان يحوي أبنيّةً، أبعدها هو الموقع الرئيسي للمكان. وفيه من أُبّهة المنظر ما يَخِرّ له المرء صريعاً لشدّة حُرّاسها، ومتانةِ أسوارها. دخل، ورأىٰ في بوّابة البناء حسناءً، تفاءل بها خيراً، والتمسَ في قسماتِ وجهها ارتياحاً، وفي سحنتها البرّاقة طمأنينةً، وحمدَ ربّه أنّه ما وجد نسخةً من (بيغ شو) أمامه، وإلا ما رأىٰ نفسه إلا هالكاً، داخلاً علىٰ إبليس بعينه. وقد تعجّب في نفسه: أنّىٰ لهذا الوجهِ الخلّاب، واللحظِ الفتّاك، والحاجبِ الأخّاذ بأن يعمل عمل وحوش السهول، ونواطِعِ الجبال، وبقيّة ثمودٍ وعاد. لكنّه علىٰ ذاك التساؤل حمِدَ ربّه مرّة أخرىٰ، وازداد ثالثةً حين دخل ورأىٰ ما رأىٰ..

أربعةُ رجالٍ في مكتبٍ، يتوسّطهم واحدٌ عليه سِمات المحبّة والأُلفة. أوقفوه فيه، وشرَعَ الذي صحبه إلىٰ المكتب يشرح لهم ما حدث. هناك.. التفتَ إليه المدير، وقال له: ما حَمَلكَ علىٰ هذا؟
فقال: قد كنتُ ماراً إلىٰ المكتبة التي في أعلىٰ الشارع، وقد قدمتُ من ولايةِ (فراغ)، جئتُ إلىٰ هنا سياحةً. وأنتم تعلمون أن السيّاح يلتقطون الصور للذكرىٰ. فجعلت ألتقطُ صوراً لكل شيءٍ ألقاه. ولم أنتبه إلىٰ هذه المنشأة بسبب أشعّة الشمس. ثم أخذني الجندي الذي عند البوابة وصارَ يحقّق معي. وانظُر ان شِئتَ.. انظُر إلىٰ هاتفي لن تجد شيئاً.
- افتح هاتفك.
- سأفتحه، خذ تفضّل..
- حوّله إلىٰ التركيّة.
- تمام.
وأثناء ذلك، يستمر في التحقيق معه، حتىٰ حوّل لغة الهاتف إلىٰ التركية، وأخذ مأمورٌ آخر يبحث عن الصور فلم يجِد شيئاً. وأثناء ذلك، يُريه «سائرٌ» إثباتاته؛ من بطاقةِ الجامعة إلىٰ بطاقةِ الهُويّة، وكل ورقةٍ تثبتُ صدقَ قوله. وأنّه لا ينتمي لأي جماعةٍ إرهابيّة، أو فرقة استخباراتٍ أجنبية، أو نادي برشلونة الصهيوني. 

علِمَ المدير صدقَ دعواه، واستقامةَ ممشاه، وأنّه إنما أخطأ بغير قصدٍ، وسهىٰ بغير مشيئةٍ. وفوق هذا التمسَ طلاقةَ لسانِه، وحلاوة أسلوبه، وبيان حُججَه، فسأله عن الجنسية: أتحصّلت علىٰ حقّ المواطنة؟
- لا، لم أفعل.
- ولمَ؟
- لا أدري حقيقةً. (وفي نفسه يقول: دعك من هذا الحق، أعطني حقّ الخروج وهذا يكفي).
أذن له المدير بالخروج، وشدّد عليه بعدم تكرارِ فَعلَته تلك، وإلا وُضِع في خانةِ الاتهام، وتهديد الأمن القومي، وثقبِ طبقةِ الأوزون، وهُبوط نادي يوفنتوس إلىٰ الدرجة الثانية، وموت الرجل الحديدي في مرأىٰ (فيلم) المنتقمون.
خرج معَ «سائرٍ» ذاك الذي بلباسٍ مدنيٍّ الذي اصطحبه، وفي بوابة المخرج، رفع يده يُلقي عليه التحية، فسلّم عليه. وودّعه. ثم التفت إلىٰ العسكري، فرفع يده يُسلّم عليه، لكنّه قبص علىٰ سلاحه ولم يمدّ يده، وأشار عليه بالابتعادِ (بنفس تلك النبرة الغليظة الشديدة). فاستدرك «سائرٌ» الأمر، وجعل يحك رأسه بيده تلك -يُصرّف ذاك الموقف المحرج-، وفي قرارة نفسه يسب الجنديَّ بأقذع الألفاظ، وأنتن العبارات التي اسمتدّها من صحبِهِ مشكورينَ مأجورين.

أخذ نفساً طويلاً، استنشق به الهواء والرياح، والشمس والغيم، وكل شيءٍ في طريقه. وهو يردد كُفينا من أشعّة الشمس أذىًٰ بهيجاً، وبملل حياتي حظاً عظيماً. أغنانا الله عن السياحة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١