قصّة قصيرة: عنصرية بجوز الهند

 

عدا به الدهر أحداثاً وأهوالاً، وكان جلّ همّه في الكدّ والسعي للقمة العيش. ثم أملاً أن يضع الدرهم فوق الدرهم، والدينار فوق الدينار، فيذهب بما عنده يتزوّج به. فما طعمُ الحياة أن يغدوا فيها المرء وحده، فيأكل وحده، ويجلس وحده، وينام وحده. وإن كان له من الصحِاب والرفاق من يؤنسونه، ويسلّونه؛ فما ذاك يُغني، وما يفي بالغرض. فما خُلقت الأنثىٰ إلا وكانت مُكمّلةً للرجل، وهو لها من حيث ما ينقصها. علاقةٌ تكامليّةٌ؛ تستقيم بها الحياة، ويمتدّ النسل، وتُعمَر الأرض، فتُقام سنّة الله علىٰ عباده؛ في عبادته وشكره.
وما اشتطّ به الأمر حتىٰ جمع ما قدر عليه، وهو فوق ذلك كفؤ لمن يطلب. وذو دينٍ وخُلقٍ ومالٍ لا بأس به= فجمع حسب الدين والدنيا.

وقد جعل يُمنّي النفس أن يخطب له والده يمامة بنتُ جاره أبو جود، الذي لطالما استقبله بوجهٍ بشوشٍ فرحٍ، وصدر فيسحٍ رحبٍ، وحفاوةٍ لا تشعر معها إلا كأنّك أمير المؤمنين. ثم بعد هذا يجعل يحدّثك بأحاديثه الجمّة العطرة، يتنقل من موضوعٍ إلىٰ موضوع، ومن مسألةٍ إلىٰ مسألة، تنبسط أساريرك بحديثه، وتذهل نفسك لكلامه، وتُعجب من لسانه الذي لو بطش بيده أحداً، فقتله، وثبتت عليه التهمة، ثم استعان بلسانه هذا يردّ التهم المثبتة= لأحسست بصدق كلامه لا ريب. قولٌ معسول، ورأيٌ مسؤول، وقلب موجول. لا تملّ مجلسه، ولا تكلّ بصحبته.
فاستبشر أكرم بما علمه عن جاره من الخلق الحسن، فهو وإن كان من عشيرةٍ ليست بمنزلة عشيرة جاره أبو جود، ولكنّه ذا دينٍ وخلق، فلا ريب يزوّجه.
أخذ والده، وأشعره بدواخل نفسه، فزاد سرور الأب علىٰ الإبن سروراً آخر. فحَملوا معهم ما يُحمل، وانطلقوا راشدين إليه.

يُسهّل ويؤهّل أبو جود: يا حيّا الله فيك يا أبو أكرم، يا هلا ومسهلا، ويا مرحبا. نورتم البيت.. أشرقت الأنوار، وعمرت الديار بمقدمكم. تفضلوا تفضلوا
يرد أبو أكرم: يزيد فضلك يا أبو جود، بالمهلّي.. البيت منوّر بأصحابه.
- هذا صاحبي أبو كاسر، أعرفك عليه.
- تشرفنا فيك يا أخي أبو كاسر.
- نعرفك يا أخي أبو كاسر.. هذا جارنا وحبيبنا أبو أكرم، أخي بالله، وما طاب لي البيت إلا أنّه جار لي.
يرد أبو كاسر: تشرفنا فيك يا أخي أبو أكرم.
- لنا الشرف.
- يا جود.. يا أسعد.. صبوا القهوة لعمكم أبو أكرم.

- من يد ما نعدمها يا ابني يا أسعد.. الله يحفظك لشبابك.
يبادر كرّة أخرىٰ صاحب الدار (أبو جود): يا هلا فيك يا أبو أكرم.. يا حيّا الله.
- الله يحيّك يا أبو جود.
- شلونك أنت يا ابني يا أكرم، إن شاء الله شغلك منيح.
يرد أكرم: الحمد لله، منيح، والله مفضّل.
- أي الحمد لله.. سمعت شو صاير يا أبو أكرم؟
- ما الخطب يا أبو جود؟
- قال المظاهرات مشتعلة بالجنوب، والبلد تغلي وتشتعل، وصارت علىٰ كفّ عفريت.
- الله يسلّم يا رب.. أي نعم سمعت، عساها تكون خير المرّة هاي.
- لا، خير إن شاء الله.. أنا مستبشر خير المرّة هاي. وأشعر أنها ستكون الحاسمة. فالبلد قد تحكّم بها الرعاع والأجلاف. وبغوا فيها طغوا وتجبّروا، وأخذتهم العزّة بالإثم فحكّموا بغير شرع الله. وما استكانوا إلىٰ حدود الله، وما عصمهم ربي عن الدخول في الدم الحرام فسفكوه وأراقوه.
- أي والله، الله ينتقم منهم.
- ما تعلّم هؤلاء الظلنة هذا إلا من أسيادهم الغرب، الذين تمرّسوا في الطغيان والجبروت، وحسبوا أنفسهم أسياداً علىٰ سائر بني البشر، فاستعبدوهم وهم أحرار. وما راعوا فيهم ذمّةً ولا رحمةً ولا ضمير.
- الله يخزيهم.
- بل تمادوا، فصنعوا حضارتهم المزعومة علىٰ أكتاف العبيد الذين ساقوهم من إفريقيا يعمّرون الديار، ويُصّنعون الآلات، وينقّبون عن المعادن بثمنٍ بخسٍ مقداره كَسرة خبزٍ تكفّ جوعه، وتسدّ رمقه، وتبقيه علىٰ قيد الحياة.
- أي والله صدقت يا أبو جود..
- تسلم يا أبو أكرم، وأيضاً تراهم قد سرت فيهم تلك الصفة الشنعاء، أعني التسيّد والتملّك علىٰ رقاب الناس، فلا تراهم ينظرون إلىٰ الشرقيين والأفارقة إلا بنظرةٍ من برجٍ عاجٍ، كأنهم نملٌ وهم الصقور. حتىٰ أنك رأيتهم كيف قسّموا العالم إلىٰ ثلاث، وجعلوا أنفسهم في العالم الأول، أما العرب، ووسط آسيا وأفريقيا ففي الثالثة. فما هذه التقسيمة إلا استمراريةٌ منهم، ودأبٌ وسعيٌ حثيثٌ علىٰ انتهاج نهج أسلافهم في الاستعباد، والنظرة الدونيّة للمجتمعات.
هذه هي العنصرية بذاتها، أوما علموا كيف أن بلالاً الحبشي اعتلىٰ الكعبة يؤذن للعرب الأشراف، وكيف قال فيه عمر: ‏‎”أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا“. وكيف أن سلمان الفارسي صارت له الكلمة المسموعة، وصهيب الرومي له شأنه من المهاجرين كشأن أحد رؤوس مكّة. وعمّاراً وعبد الله بن مسعود، وعامر بن فهيرة وغيرهم، هم من المهاجرين كأيّ واحدٍ مِن مثلِ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير. ألم يروا كيف كرّم الإسلام بني البشر، وجعلهم سواسيةً كأسنان المشط، لا يترقّىٰ أحدهم عن غيره إلا بالتقوىٰ والعمل الصالح.
- صدقت يا أبا جود.
- الله يسلمك يا أبو أكرم.. ثم ألم يعلموا أن الله وضع أحساب الجاهليّة وتعظّمها بالآباء، وجعل مكانه نسب الإسلام. ومحا أثر اللون في إعلاء مرتبة المرء، وجعل عوضاّ عنها مرتبة الخلق الحسن، والإحسان للناس. 
- صدقت يا أبا جود..
- الله يسلمك يا أبو أكرم.. أخذتنا السيرة والله لا تآخذني.
- لا.. ولو.. حديثك لا يُمل منه يا أبو جود..
- الله يسلمك يا أبو أكرم.. تفضّل آمرني..
- ما يأمر عليك ظالم يا رب. الحقيقة أنا بشرفني نسبك، وبشرفني أطلب يد بنتك لابني أكرم علىٰ سنّة الله ورسوله. فيجتمع لنا مع الجيرة الحسب والنسب.
- لا يُرَد طلبك يا أبو أكرم، أنت غالي علينا. ولكن أنت تعلم ما يقول الشرع، يجب أن أسأل ابنتي، وأستشير الأهل. هاي الأصول.
- هذا حقّك، وما أحد فوق الدين.
- أرد لك خبر لاحقاّ إن شاء الله، فأهلي ليسوا هنا.
- وأنا أنتظر منك البشرىٰ يا أبو جود، الله يكتب لنا اللي فيه الخير. في أمان الله وحفظه.. السلام عليكم
- وعليكم السلام، شرفتمونا وآنستمونا

يبادر صاحبه أبو كاسر: لماذا قلتَ أن أهلك ليسوا هنا، فهم هنا كما أعلم، ثم إني لا أظنّ أن ابنتك سترفض!
- ما كنتُ لأسأل ابنتي.
- لكنّك قلت لهم أنّك ستسألها!
- نعم صحيح، كان ذلك أسلوباً رقيقاً للرفض.
- ولماذا ترفضه.. بعد كل تلك المدائح؟!
- أتمزح معي! إنه من عائلةٍ أدنىٰ منّا شأناً وشرفاً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١