في السابع والعشرين من آب: الجزء ١
وقد عاد من قيظٍ ألمّ به، بعد طول سيرٍ، وحرور شهر آب الذي يهلك الحرث والضرع، وما انتهىٰ من رمضان وقد مضىٰ عليه أربعةً أو خمسة أيامٍ، وقد انقضىٰ عنه بعض ذلك الجهد والكَبد. أُمِر أن يذهب وأخيه إلىٰ البقّالة، يبتاع حاجيات البيت، وما كاد يهمّ ينزل إلا وهو يتأفأف، ويثور غليانه كعادته حينذاك، وهو مراهقٌ غِرٌّ ما بلغ الثانية عشرة من عمره إلا لتوّه.
علىٰ أنّه نزل وأخوه، وراح يقضىٰ مأربه، ثم أفل عائداً إلىٰ البيت، وهو علىٰ قيظ الجو، وحرور الكويت كان فرحاً بعض الشيء. لم يدرِ لماذا.. لكنه فرحٌ علىٰ أيّة حال. ولعلّه كان قد اعتاد جوّ الكويت مليّاً، فصار دُنو بعض حرارته في منتصف النهار يُبسطه قليلاً، ويبعث علىٰ نفسه شيئاً من الفرح.
دخل البيت، بعد أن ابتاع كزبرةً، وكثيراً ما كان قد تحرّز الفرق بين البقدونس والكزبرة، فما لقي لذلك سبيلاً، وما وجد إلا العنت فيه، تقول له أمّه: ائتني بالكزبرة. فيجلب البقدونس. وتارّة تقول له: ائتني بالبقدونس. فيأتي بالكزبرة. ثم بعد أن يعرف خطأه في الطلب، تثور بينه وبين أمّه معارك ومطاحن، لا تكون الغلبة فيها إلا لها. وبالأخص حين يأبىٰ أن يعود مرّةً أخرىٰ، فتنادي علىٰ أخته بأن تأتي لها بالعباءة لتنزل بنفسها، فيكون هذا سُبّةً وعاراً عليه إلىٰ أبد العمر، ومازال يُعيّر فيه عند أبيه فلا يلقىٰ منه إلا التوبيخ والتقريع. وهو في صميم قلبه يدري بأنها لن تنزل، وعلىٰ علمه بذلك، وحصوله مراراً وتكراراً؛ إلا أنّه يخنع ويخضع، فينزل صاغراً، ويأتي بطلبها.
يعود أدراجه بعد فراغه، فيدخل البيت، فلا يسمع حسّاً كما في كلّ مرّةٍ، هدوءٌ وسكينةٌ علىٰ غير العادة. ثم يُبصر الدمع تغزو أجفان أخواته، ومثلها وبأشدّ منها قد أخفت بؤبؤ عيني أمّه عنه. وذاك الإحمرار الذي زاد، وما يشير إلا لحزنٍ عظيم، وخطبٍ جلل!
- ما الأمر؟ ما بكنّ؟ لم تبكين؟
- ابن عمّك..
- أي واحدٍ؟
- عبد العزيز.
- ما به؟ ما خطبه؟ انطقن؟؟
- ابن عمّك عبد العزيز.. مات.
مات! أعاد نطق الكلمة، وكأنه لا يعرف معناها، قد جمُدت الحياة قليلاً. لم يكن حينذاك قد اطّلع علىٰ كتب الأدب، وما كان بعد قد اعتكف علىٰ صِوان الكتب، يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، فيستزيد من معانِ العرب، وتكون له تلك الحصيلة الأدبية، والثروة اللغوية. ويكون ذاك المفوّه الذي عرف مترادفاتٍ، وحشىٰ بعضها بين طيات صفحاته، ورسمها بمحبرته علىٰ أوراقه؛ حتىٰ لامه بعضهم، فاتهموه بالتنمّق والتشدّق..
كل ذاك.. وأكثر.. خانته اللغة حينها، ما عرف معنىٰ الموت. ما ذاق منه طعماً قبلئذٍ، إلا قبل سنتين منها، حين سمع أباه وأمّه يبكيان موت زوج عمته، وقد كان في آن الوقت ابن عمة أبيه. مات بالسرطان، فرأيت أبي قد اغرورقت عيناه حزناً، وأمي تبكي حال عمتي، وقد ترمّلت علىٰ صغرٍ. أنذاك علمَ صاحبكم أن هناك كلمةٌ اسمها: الموت، وأنّها ليست كغيرها من الكلمات العابرة. وعلم بعدئذٍ معناها.. ذاق مرارتها في سنة ٢٠١٢م.
- يلا يمحمّد، البسوا بسرعة نذهب إلىٰ عمّك وزوجة عمّك، نواسيهم ويواسونا في مصابنا.
كان صاحبكم يسمع لها وباله في وادٍ. وادٍ ما خبِرَه قبل اليوم. كيف يموت عبد العزيز! ما زال طفلاً! ما زال أصغر مني بسنةٍ واحدةٍ! وكان قبل أشهرٍ ليست بالبعيدة قد أتاه، ولعب معه الكرة، ثم أمسك جهاز الألعاب (بلايستيشن ٢) يلعب معه لعبة (بيس ٢٠١١). كيف يموت وهو مازال صغيراً! وما زال يذكره وقد أتىٰ من سوريا، إلىٰ الكويت، فأراد مصارعته ومكاسرته، فغلبه حيناً وآخر. ثم حين استنكر علىٰ عزيز (هكذا كان يُنادىٰ اختصاراً لاسمه عبد العزيز) كيف يكون أصغر منه ويهزمه علىٰ ذلك؟ كان عزيز يحيل ذاك إلىٰ أنه يلعب تمرين الضغط، ويتمرن بهذا التمرين عشرَ مراتٍ فما فوق في الوم الواحد!
كيف يموت؟
لمَ يموت؟
كل هذه الأسئلة تحوم في رأسه، وتدور في خلده، وهم ينطلقون بالسيارة إلىٰ بيت عمّه. تساءل حينها، كيف يكون حال عمّه ذاك؟ وقد بلغ من العمر مبلغاً، وعزيز ليس إلا وحيده علىٰ ثلاثة أخواتٍ له، وهو قد ناهز الخمسين أو أقل بقليل؟ كيف يكون حاله زوجة عمّه، وقد ألمّت بها أمراضٌ شتىٰ، فما عادت تحتمِل الصدمات.. كيف بها أن سمعت خبر موت وحيدها، فما صنعت؟ كيف يكون حال بنات عمّه، وهنّ كلهنّ أكبر منه سنّاً، وما لهنّ غيره من أخٍ؟ ترىٰ كيف يصمدون علىٰ موته؟ وكيف نصمد نحن عند رؤيتهم؟
سبحان الذي قهر عباده بالموت. لعمري وإني لأتحدّث بلسان الحاضر، ولسان رجلٍ قد أعيته بعض السنين، واختمرت فيه نوائب الدهر التي حمّله الله، ومصائب الدنيا قد حامت علىٰ بعض أيامه حتىٰ لكأنّه عاف الدنيا ومن عليها.. وما عليها، فإني لأقول: ما رأيت أشقّ علىٰ المرء من الموت يُذكّره. وكم بلغ بسيدنا عمر -رضي الله عنه- من الحكمة مبلغاً، أن نقش علىٰ خاتمه: ”كفىٰ بالموت واعظاً“.
صدق وصُدّق وربي، فمن يعظك؟ أأبوك؟ أأمّك؟ أأخوك؟ أشيخك؟ أأستاذك؟ أصاحبك؟
أدينك؟ ربما كان دينك.. لكن لا يكفي، فإن الإنسان من النسيان سُمّي، نسي حتىٰ الأمانة فضيّعها. فما يُذكّره بربّه إلا أن يرىٰ الموت بعينه، أن يختبره بحواسّه، وأن يرىٰ تلكم الأجساد توضع في أحشاء الأرض، بباطنها الذي فيه من البرودة ما في برودة (المربعانيّة)، ومن الظلام كما أن تنزل إلىٰ أعماق المحيط ٢٠ ألف متر؛ ظلماتٌ بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك ما رأيتها. وفيها من الوحدة التي لكأنّك آخر بني البشر في هذا العالم الفارغ.
حينذاك يذكر المرء ربه.. ولعلّه ينسىٰ.. وينسىٰ.. ثم ينسىٰ.
وقد أعياه طول الفكر وهو متّكئٌ علىٰ جانب السيارة، ووجههُ إلىٰ الزجاج، وحَرّ آب ما زال يضنيه، علىٰ تلك النسمات التي تدخل من قتحات النافذة بفعل سرعة السيارة. وأبوه مازال يعظهُ وإياهم، ويحدّثهم بخشوعٍ وخنوعٍ لعظمة ربي عن قضاءه ﷻ وقدره. وأرشدهم أن يدعوا لجدهم وجدّتهم، اللذان مع زوجة عمّه الآخر قد أصابهم من القصف ألماً وشظاياً. فأُلحقا بالمشفىٰ، ومازال الخطر يحوم حول حياتهم.
وصَلوا.. وليتهم ما رأوا.. وقد رأىٰ عمّه وكأنّه مكسور الظهر، منحني القامة وهو قبل ذلك له من الطول الذي ما حسب صاحبكم نفسه يوماً يُسلّم عليه -وإن كبر- إلا أن يقف علىٰ كرسيٍّ ويصعد إليه! لقد استطال الزمن أن جاء يومٍ ما جهد فيه صاحبكم في السلام عليه. ولو ترىٰ وجهه وقد تمعّر حزناً، وتبدّلت ملامحه، ينظر من غير إبصارٍ، استقامت عينه علىٰ نقطةٍ من الفضاء لكنه لا يُبصرها، مازال يجهدُ في استيعاب الحقيقة؟ أمَا حدثَ قد حدث بحقٍّ؟ أم أنّه تنبّؤاً وتوقّعٌ؟ وكأنّه ينظر إلىٰ عمه، فيرىٰ دواخل عمّه تقول: ليتهم لو يعاودون الإتصال فينا يخبرونا أن قلب عزيزٍ ينبض، وأنّهم قد تُهِيّأ لهم موته.. لكن عبس.
أتدرون لمَ كان ابن عم صاحبكم في بلدتهم أم ولد، في حوران، مع جدّه وجدّته، ولم يكن مع أبيه وأمّه وأخواته في الكويت؟ سأقول: ذاك أنّ الحكومة العربية الموقّرة في دولة الكويت قد سمحت لعمي بجلب بناته كلّهن ما عدا ابن عمي ذاك!
لمَ؟؟ أتسألون لمَ؟ ما هذا السؤال الساذج! أيُسأل وليّ الأمر عن حكمةٍ ارتضاها. لا تكفُر رعاك الله، ألم يكفكَ أن سمحت لك الكويت وتفضّلت عليك أيها السوري الحقير المسكين، وأيها الفلسطيني الشؤوم الذلول، واليمني الفقير اللئيم أن تدخل أرضها الطاهرة¹.
أفُرّقَ بين أمٍّ وابنها، وأبٍ وابنه، وأخٍ وأخواته؟لا بأس، فما يهمّنا نحن المواطنون أحباب الله، وشعبه المختار إلا أن ننعم في صحرائنا القاحلة، وأن لا يستولي الوافد المعتدي علىٰ خيراتها.
قضاء الله؟ نعم هو سارٍ علينا جمعاً. لكن حكومات الطوائف هذه لها نصيبٌ كنصيب النصيريّة والروافض في بطشهم وطغيانهم. فلو أرادوا خلع ذاك الطاغية القابع في دمشق؛ لخلعوه كما صنعوا مع طاغية بغداد وطرابلس الغرب. لكنهم أعجبهم صنيعه، فكأنّهم يقولون: يا بشار.. اقتل وأفني؛ فداكَ مالي ونفسي.
أمّا هل انتهينا؟ فلا.. لم أفرغ بعد.. مازال في جعبتي المزيد.
ذاك أنّه في ضحىٰ السابع والعشرون من شهر آب، في اليوم الذي ولد فيه أبي، الذي أناديه تارةً أبا الحسن إذ هي كنيته في شبابه. فوصل لنا خبراً ملأ الصفحات، أن بلدتنا: بلدة أم ولد، الكائنة علىٰ أبعد حدٍّ في محافظة درعا جنوب سوريا، وأقرب بلدات السهل إلىٰ جبل العرب. طالها من القصف والعدوان، شيئاً أن خرجتُ إثره ضحايا نحسبهن عند ربي شهداءً؛ ابن عمي و..²
أحبَرَها أبو هاشمٍ مُحمّد الأُمّي في كوتاهيا، تركيا
أصيــل الأحد ١١ صفر ٤٥ه الموافـــق ٢٧ آب ٢٣م
ــــــــــــــــــــــــ
¹: ”مررتُ بأرضٍ أسفل البصرة تُسمىٰ كاظمة، لا تسكنها الجن من شدة الحر“ - ابن بطوطة يقصد الكويت.
²: كيف كان القصف؟ أوافيكم به في خاطرةٍ أخرىٰ غيرها. اليوم مساءً أو غداً صباحاً إن شاء الله.
تعليقات
إرسال تعليق