عين الجاهليّة
ما أعيبُ علىٰ الجاهل جهلَه، ولا علىٰ الأحمق حمقه، ولا الخصيم فجوره، ولا السفيه سفهه؛ أنما أعيبُ علىٰ العاقل أن يحذو حذو خصيمه، وأن يسير في رَكبه من السّفه والحُمق والفجور، فما علىٰ الجاهل مُلامٌ، إذ قد رُفِع عنه القلم لصغر عقله ودناءه نفسه، أما العاقل فقد شُرّف بعقله، فكيف يُرىٰ له النزول إلىٰ مقام خصيمه؟
وإني لأعيبُ علىٰ الرجل أن هَمّ بردّ الصاع للجاهل صاعين، فإن شتمه، قابله بشتائمٍ، وإن هجاه كال له ضعف هجائه، وإن نشر عيبه بين الناس، فعل صنيعه. فكأن الرجل قد محا شخصيّته، واستبدلها بفِعال غيره، فاعتنق مذهبهم في معايشة الناس، وتطبّع بطبائعهم، وجُجِل علىٰ شاكلتهم. فتملّص من لونه، وتخلّص من روحه التي ميّزها الله ﷻ بها، فكأنّه وصاحبه ذاك متشابهان، أو كأنهما واحد؛ فما عاد له وزنه من حيث الإرادة الحرّة، وهي من الأمانة التي شرّف الله البشر وكلّفهم بها دوناً عن غيرهم.
وقد رأيت حرّة الردّ تُشقي الرجل إن رأىٰ من يشتمه فيسكت عنه، ذاك أن النفس ميّالةٌ بطبعها إلىٰ الذبّ عن ذاتها، والحميّة لعزّها وشرفها، فترىٰ الإنتقام من ذات الشربة، وذات الكأس؛ سبيلاً لها أن تعيش نشوة النصر. فإن كبح المرء جماحها، وحدّها بميزان الحِلم، ودواة العقل؛ عزىٰ به ذاك إلىٰ نشوة النصر علىٰ النفس، فما عادت بعد ذلك تُعينه علىٰ الباطل، وما رُجي منها بعدئذٍ أن تدفعه إلىٰ الجهل دفعاً.
وكَمْ يذهب بلبّي، ويُزهي خاطري حينما أقرأ آية ربي ﷻ، يصف حال المسلمين إذ يداهمه الكفّار، ويجابهونهم بالسبّ والستم، والتحقير والتقريع، ولا يقابلون أصحاب عظيمنا ﷺ ذلك إلا بالسلام، والتغافل: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾¹.
وكأنّهم أنفوا أن يصلوا إلىٰ حضيض الجُهّال، وترفّعوا عن ينالوهم بالأذىٰ. لا أعني أذىٰ القول، أعني بالأذىٰ أن ينجروا إلىٰ ما هم عليه من فحش الكلام، ولغط القول.
وانظر كيف ترىٰ أن من الجهل دفع الحقّ بالشّتم، دوناً عن مدافعة الحجّة بالحجّة، يقول ربي ﷻ علىٰ لسانهم: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾².
فإن النفس تورث لا ريب بما تخالط الناس من الأذىٰ، وقد أراني وإذ أسمع فحش الكلام من أحدهم، لا يشتمني، بل يشتم غيري مازحاً ضاحكاً، وهو لا يقصد الإهانة والجد بذلك، إنما المفاكهة، فأراني إن لم أُنكره -أقلّها- في قلبي؛ وجدتني بعدئذٍ أنطق بها بغير إرادك، هكذا علىٰ السجيّة. فمخالطة اللغو تضع في النفس منه شيئاً. ومن الضرر الحقّ أن تسمع لللغو: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾³، ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾⁴.
أرأيتَ كيف أن مداومة السماع للباطل؛ كذباً كان، أو تلفيقاً، أو تزويراً، أو شتماً وتذميماً.. كل ذلك يؤثّر في النفس؟
ولكَم يعجبني قول الجاهلي عنترة العبسي في معلّقته، إذ يقول باثنين شتماه وحقّراه بعد أن قتل أباهما، فكان سنام ردّه فعله لا قوله:
الشاتِمَي عِرضي وَلَم أَشتِمهُم
وَالناذِرَينِ إِذا لَم اَلقَهُما دَمي
إِن يَفعَلا فَلَقَد تَرَكتُ أَباهُم
جَزَرَ السِباعِ وَكُلِّ نَسرٍ قَشعَمِ
وهل لك أن تنظر فعلَ من يشتُم، أو قوله، هل تراه ردّ بأسلوبٍ بليغٍ؛ يدفع به عن نفس، أو يرُدّ إشاعة ظهرت عليه؟ فإن والله إن لم يفعل فكأنّه يكمل نقصان عقله بذلك الأذىٰ. فيرفع صوته تجريحاً، فيكون ذلك برهانٌ علىٰ جهله. وما أحسبه إلا أن فيه من أثر الجاهلية. أو لنقل هذا عين الجاهليّة.
يقول حاتمِ الطائي:
وَما مِن شيمَتي شَتمُ اِبنِ عَمّي
وَما أَنا مُخلِفٌ مَن يَرتَجيني
وقال العباس بن مرداس:
أَلا أَيُّها المُهدي لِيَ الشَتمَ ظالِماً
تَبَّين إِذا رامَيتَ هَضبَةَ مَن تَرمي
ومثله يقول محموز الورّاق:
أَيا مَن تَدَّعي شَتمي سَفاهاً
عَجِلتَ عَلَيَّ خَيراً يا أُخَيّا
أُكَسِّبُكَ الثَوابَ ببتّ شَتمي
وَأَستَدعي بِهِ إِثماً إِلَيّا
فَأَنتَ إِذَن وَقَد أَصبَحتَ ضِدّاً
أَعَزُّ عَلَيَّ مِن نَفسي إِلَيّا
وأختم كعادتي بقول عظيمنا ﷺ: الذي رواه أبي الدرداء: ”ما شيءٌ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء.“⁵
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة، فقال: ”تقوىٰ الله وحُسن الخلق.“ وسُئل عن أكثر ما يُدخِل الناس النار، فقال: ”الفمُ والفَرْجُ.“⁶
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ”ليس المؤمن بالطّعّان، ولا باللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء.“⁷
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّ النبي ﷺ قال: ”المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده.“⁸
أحبَرَها أبو هاشمٍ مُحمّد الأُمّي في كوتاهيا، تركيا
ضحىٰ الجمعة ٩ صفر ٤٥ه الموافـــق ٢٥ آب ٢٣م
ــــــــــــــــــــــــ
¹: سورة الفرقان، الآية ٦٤.
²: سورة القصص، الآية ٥٥.
³: سورة المنافقون، الآية ٤.
⁴: سورة التوبة، الآية ٤٧.
⁵: سنن الترمذي برقم ٢٠٠٤.
⁶: سنن الترمذي برقم ٢٠٠٢.
⁷: سنن الترمذي، كتاب البر والصلة.
⁸: صحيح البخاري، كتاب الإيمان.
تعليقات
إرسال تعليق