قصّة قصيرة: حضارة الدجّال
سيداتي سادتي، لا تحسبوني أنما قدمتُ إليكم بعد أن فُكّ قيدي، وانطوت سلاسلي علىٰ الأرض أنما أريد قهركم علىٰ ما في أيديكم، بل الخير أريد لكم. ولو أنّكم شهدتُم ما شهدتُ لأنصفتموني، ولجعلتم لي من المعاذير؛ هواطل لا تنتهي إلىٰ الأرض، ولعلمتم حق العلم ما ألاقي في سبيل محياكم، وكيف سعيتُ إليكم لأخلّصكم من ضرور الشياطين الجن، ومفاسد شياطين الإنس. إنما أتيتُكم لأنقذكم من شر أولئك الأجلاف، الذي لا يريدون إلا قهركم علىٰ أمركم، والتسلّط علىٰ رقابكم. قد زعموا أنما يدعونكم إلىٰ إلهٍ واحدٍ لا شريك له، وأن تتبعوا أنبياء كُثر بُعثوا إلىٰ أسلافكم، فإن كان حقّاً ما يقولون، فهأنذا أمامكم هاهنا. فليتبعوني. وليطيعوا أمري، وليأتمروا يأمري، ولينتهوا بنهي.
- أتدّعي الألوهيّة؟
- أدعيّها؟ بل أنا كذلك. قد جئتُ ومعي جناني ونيراني. ولي من التّبّع ما أستولي علىٰ البلاد، وأُرضِخ بهم العباد، وأملك ما هو من صنعي. فمن أجابني فله من الجنة نصيبٌ لا يضاهيه نصيب. ومن أبىٰ فلأُسعرنّ ناري به، ولأصلينّه من جحيمها عذاباً مسموماً.
(يقاطع أحدهم مشكّكاً): لكنّك يا..
- مسيح.. اسمي مسيح.
- والنعم يا مسيح.. لكنّك يا مسيح نرىٰ عيناك إحداهما مطفوءةً، والأخرىٰ ممسوحة. فكيف تكون ربّاً؟ أوليس يكون الربّ علىٰ أحسن صورةٍ وأبهىٰ حلّة. أعني هكذا وصلنا من أسلافنا. قد قيل إن ربنا في أحسن صورةً، لا يقدر عقلنا البشري علىٰ تخيّلها، ولا أعيننا علىٰ إدراكها.
- سؤالٌ جميل. نعم، هكذا يجب أن يكون الرب بحق. لكنني هاهنا لا أريد أن أظهر لكم بتجلّيّ الحقيقي؛ فتُفقع أعينكم بجمال وجهي، وببهاء صورتي، فأعينكم لا تحتمل نوراً أكثر مما علىٰ هذه الأرض. وليكون وجهي الذي وصفتموه فتنةً لعبادي الأطهار، واختباراً لهم من يعرف الحق بالمعجزات لا بالمظاهر. أعلمتُم يا عبادي؟
- لكنّك يا أعور.. أقصد يا ربنا المسيح، مكتوبٌ علىٰ جبينك أحرفاً مفرّقةً، أحسبها إنما هي: حرف الكاف والألف.. و.. وحرف القاف..
(يتدخّل آخرٌ من الحضور مشكّكاً): لا لا، بل حرف الفاء.
- نعم أحسنت، حرف الفاء. والأخير أحسبه حرف الراء.
- إذن أربعة أحرف.
- نعم أربعة أحرف.. ك ا ف ر
- يعني كافر.
- صحيح.
(يقاطع الدجال متحدّثاً): دعكم من تلك السفاسف، وغضّوا طرفاً عن هذه الهلاوس، إنما هذه تراكيبٌ جلديّة. ألم تصلوا من العلم الذي وهبتكموه أن تعرفوها، وتدركوا به ما خُفي عن أسلافكم؟
- ربما كان كما قلت.. لكنه قد وصلنا من أسلافنا أن هناك رجلاً سيقدم علينا، بين عينيه اللتان إحدهما مطفوءة والأخرىٰ ممسوحة أربعة أحرف، هي: ك ا ف ر. وأنّه يدّعي الألوهيّة لا ريب. وأنّه..
- كفاكم من هذا. أما تعلمون أن اليهود هم أهل الكتاب، وأنهم أصحاب علمٍ ومعرفة، وأنّهم إنما أمددتهم سلطان الأرض علماً وملكاً، ففد رأوني، وعرفوني أني إلهٌ لا ريب، وأني نصرتهم علىٰ كثيرٍ من عدوّهم، فاستجابوا لي واستقاموا لما رأوني.
(يقاطع أحدهم مكذباً له): نعم، قد قال أسلافنا أن اليهود إنما هم أتابع ذاك الأعور. فلا شكّ أنّك واحدٌ منهم.
- وما السبيل إلىٰ جعلكم تصدّقون قولي؟
- ءإتنا بآيةٍ علىٰ صدق قولك.
- أرأيتم لو أحييتُ لكم بعضاً من أسلافكم، يخبروكم أني لكم ربّاً، أكنتم مصدّقي؟
- لا ريب سنفعل. وما نحسبك تقدر علىٰ ذلك. إذ أنّك كاذب كما أخبرتنا الرسل.
✧ ✧ ✧
- أسمعتم بذاك القادم الذي ادّعىٰ الألوهية؟
- نعم.. تقصد السيد المسيح.
- بل قل الرب.
- لا ريب أنّه كذلك، إذ قد استطاع أن يحيي آباء أناسٍ كُثر، فشهدوا له بالربوبية.
- أرأيتم ما صنع بذاك الذي كذّبه، كيف أنّه قسمه نصفين، من فروة الرأس وحتىٰ أخمص القدمين؟
- نعم رأينا، ثم أخبر أتباعه أنه سيحييه ليكون علامة صدقه.
- قد فعل.
- ولكن لما عاد ذاك إلىٰ الحياة أقسم بربٍّ آخر غيره أنّه لن يستطيع فعلها مرّةً أخرىٰ!
- ليته فعل لكي يريح بعض المشكّكين.
- لو فعل ذلك لاستصغر نفسه بأن يسمع لكل رجلٍ قوله. فمن أراد أن يصدّق فليفعل فإنما جزاؤه الجنة. ومن كذّب فإن مصيره النار.
- بورك من رب، سمعتُ أنّه قادمٌ بذاته ليخطب فينا. ونحارب تحته رايته جموع الوثنيين في بلاد العرب. بعد أن كذبه كثيرٌ منهم.
- نعم، سيفعل. وسننصره حتماً.
- صهٍ صهٍ.. ها قد جاء.
- أعزائي بني آدم، عبادي المحترمون، إنا هاهنا في نيويورك، قد اجتمعنا تحت مؤسستكم الموّقرة المحترمة الجليلة التي إنما أسّستموها لتعمروا الأرض، وتصنعوا السلام، وتحكموا بين الناس بالعدل، وتقسطوا بينهم ألا يبغي بعضهم علىٰ بعض، وألا ينازع أخٌ أخاه، وألا يتجبّر أحدهم علىٰ جاره.
- قد فعلنا وسلطانك.
- نعم، فعلتم، وقد ارتسم علىٰ محياي شعور الهنأ والسعد والفرح، واغتبطت بكم أيّما غبطةٍ، وباهيتُ بكم ملائكتي وباقي خلقي.
- رضاك غايتنا. بوركت من ربٍّ أعور.
- لست بأعور.. بوركتم يا عبادي. غير أن ما أترحَ أيامي، وأشقىٰ نفسي إلا أولئاك الأجلاف الذين في الأراضي الوسطىٰ. الذي تسمونهم مسلمين. قد بغوا وتجبّروا، وما عادوا يأبهون لسلمٍ وحرب. إنما دأبهم وهمّهم الخراب والتدمير، والعيث في الأرض فساداً وخراباً. فلأَقْسِمنّ ظهورهم، ولأَقْضمنّ رؤوسهم؛ أو يتّبعوني فأُديم عليهم سعدهم وحياتهم هنيّةً مريّةً مُنعّمة.
- نعم يا ربنا الأعور.. لكَم قمنا بالإغارة عليهم فما رضخوا للحق. بل ورأيناهم قد أنفوا أن يعطونا مما رزقتهم: من النفط والغاز والخيرات. أرادوا أن يختصّوا به نعماً وعيشاً. وحين قمنا بالسطو عليهم، لأخذه قتلاً وتهجيراً وإبادةً غضبوا من ذلك، وأخذوا ينعتونا بأقذر الصفات، وأشدّ السمات.
- لست بأعور.. ما من حقّهم ذاك.
- نعم، ولم يكتفوا يا ربنا الأعور.. بل حينما ظلمْنا عبادك بني إسرائيل في أرضنا،وأردنا تكفير خطايانا واستغفارك، بأن نجعل لأتباعك اليهود وطناً في أرض الوثنيين المسلمين؛ قتلونا، وأرادوا أن يبيدوا عبادك، فأمددناهم بالمال والسلاح ليدفعوا عن أنفسهم القتل والهلاك.
- لستُ بأعور.. خيراً فعلتم، ولأنصرنّكم كما نصرتموني وعبادي.
- ما إلا رضاك نريد يا ربنا الأعور.
- لست بأعور.
- نعم.. أنت محق. وحين أردنا أن نبيدهم كي يدخلوا جنّتك ويرتاحوا من مقاتلة بعضهم بعضاً؛ ثاروا علينا، وأخذوا يكيلون لنا التهم أننا مستعمرون وباغون ومخرّبون.. أتصدّق ذلك!
- مالهم من حقٍّ في ذلك بتاتاً، إنما الحقّ ما صنعتم، ويكفيكم من ذلك أنّك أتباعي، وأتباعي لا يخطئون.
- بوركتَ من ربٍّ أعور. لذلك حاربناهم، وحينما لم نجد لاستعمارنا لهم نفعاً، أنشأنا المنظمة هذه وأسميناه: الأمم المتّحدة. تيماً بالاتحاد الذي دائمنا ما دعوتنا إليه. وتمنينا يوماً أن تأتي إلىٰ حيث قائم أنت الآن، فتخطب بنا وتحمّسنا وتشجّعنا علىٰ إبادة شياطين الإنس أولئك الذين يُسمّون أنفسهم مسلمين.
- أما وقد قلتم ما قلتم، فقد صدقتُم. وإنكم قد فعلتم بتأسيسكم هذه المنظّمة ما يغني عن مقدمي، فلو كنتُ مطرحكم ما زدتُ علىٰ ما فعلتم. وعيناي إنكم قد أبليتم البلاء الحسن. وإني لمباهٍ بكم الخلق؛ طاعةً وحميّةً وإيماناً لا يشوبه شكٌّ ولا ظن. فلأقتحمنّ بكم أراضيهم المقدّسة التي يسموّنها مكّة والمدينة، ولأجعلنّ عاليها سافلها. هلمّوا نصنع التاريخ بإبادة الشياطين ورجسها، وتطهير الأرض من دنسهم. فلا يصيروا عبر
الزمن إلا قومٌ جاؤوا ثم عصوا فأُذهِبوا، فأُدخلوا ناري.
تعليقات
إرسال تعليق