نظرة علىٰ مسرحية عُطيل لـوليام شكسبير
كنت قد صُدمت للوهلة الأولىٰ إذ علمتُ أن وليام شكسبير له مسرحية أورد فيها شخصيةً عربيةً، وهي شخصية عُطيل؛ القائد العربي المغاربي، الذي يعمل لدىٰ جيش البندقية، المدينة الإيطالية التي كانت في يومٍ من الأيام خصماً عنيداً لدوداً للإمبراطورية العثمانية من جهةٍ، والمملكة الفرنسية من جهةٍ أخرىٰ. كان عُطيل رجلاً أسمراً، علىٰ مألوف العرب، أو تراه مزج بين العروبة والبربرية. وكان فارساً مقداماً ذا بأسٍ شديدٍ، وحكمةٍ رصينةٍ، ورأيٍ سديدٍ، وقيادةٍ حصيفةٍ. لا يجابه سيفه إلا حضور عقله، ولا يعاند حدة سيفه إلا حدّة بصره. أناة القط، ووثبة الأسد، جريء في غير تهوّر. غير أنّه هاهنا تهوّر!
ذاك أنّه سقط في حبائل العشق، فوهنت قواه أمام سحر الحب. تشوّش ذهنه أمام ذاك الهوىٰ. ذاك الهوىٰ الذي لا يعرف للناس قدراً، ولا للكرام مكرمةً، ولا لذوي الإقدام منزلةً، وأهل الجود حضوةً. ذاك الهوىٰ الذي أقام الناس علىٰ صعيدٍ واحدٍ، ساوىٰ بينهم في المغنم والمغرم، فلا يقول أحدهم أن الهوىٰ جار عليّ دون غيري، وأني قد بُغي علي والناس في سعدٍ وهناءٍ، ولذّةِ حياةٍ، وطيبِ عيشٍ، وسَعةِ خاطرٍ. بل كلهم سواسيةٌ كأسنان المشط، لا يرتفع أحدهم عن قرينه مقدار إصبع. فلا يلومنّ أحدٌ إلا نفسه.
سقط عُطيل في حبائل ديمونده، الفتاة البندقيّة الإيطاليّة، أو دعنا لنقل سقط كل واحدٍ بحبل صاحبه، فكانا شريكين في فخاخ الحب.
وكعادة أسلوب شكسبير في أعماله المسرحية، ترىٰ مسلك الأحداث في غاية البساطة. ترىٰ محورها سهلٌ ليّنٌ لا يعتريه الغموض، ولا تشوبه الحزازير والتخمينات المتغايرة. معلومٌ أمره، ومضمونٌ خبره. يعرف الناس بقصّة حبّهما، ويتداعىٰ الخبر في أرجاء المدينة. كيف للفتاة البندقيّة، بنت فلانٍ ابن فلان، تتزوج بذلك الغريب البعيد، أسمر اللون! نعم وإن كان قائداً في جيش المدينة، وله باعٌ في الدفاع عنها، والدب لشعبها، ومنافرة عدوها، والصدع لأوامر أميرها، وخدمة مصالحها ومنافعها؛ إلا أن الغريب يبقىٰ غريباً. فهل عدمت مدينة البندقية أن تجد لهذه الفتاة، سليلة الحسب والنسب، رفيعة المجد والشرف؛ من هو كُفؤ لها، ندٌّ لمنزلتها ورتبة أبيها؟
علم أبوها بخبرهما، لكنّه أُخبِر أن عُطيل إنما غصَبها عن أمرها، وأنّها أغواها بشعوذته وسحره، وراودها بطلاقة لسانه وبلاغة منطقه، وشدّة قبضته وحدّة نصل سيفه. فشكاه إلىٰ أميرهم جميعاً، لكنّ ابنته أقرّت بحبها له، وأنّا طوعٌ له. فجُمِع شمل الحبيبين. وكان هذا الجمع هو مطلع نهايته.
ذاك أن الذي أودىٰ بهما إنما حبائل الغيرة، ورماح الحقد، وسهام الحسد، فأتىٰ الواشون وقضوا ينفثون سمومهم في صدر عُطيل يحرّضونه علىٰ زوجه... وأترك لكم الباقي فاقرؤوها.
وحاصل أمري معها، أن المسرحية علىٰ بساطة فحواها؛ إلا أن بلاغتها طغت وعلت حتىٰ لهمتُ بها، فأيّ تصاوير، وأي تماثيل جعلها الكاتب فيها، وإن كل جملةٍ، وكل كلمةٍ، وكل حرفٍ لهي تحفةٌ في ذاتها، وكأّنك ترىٰ متعةَ قصّ القصص لا تكتمل إلا أن تجد فيها مقالاتٍ تحكّم نفسك مع الناس، وتجعل لك من فذّ الرأي، ونفاد البصيرة ما يغنيك عن السرد لذاته. وإن السرد والله لا يقلّ عن الأسلوب البلاغي إلا كفرسي الرهان؛ لا تبصر أيه غلبَ الآخر.
ألا أخبركم عن خليل مطران، فلعمري إن له قلماً سيالاً ما أعهده إلا عند المنفلوطي قي تعريب أعمال الفرنسيس. إنّك لتقرأ المسرحية فتقول: هل كان شكسبير ليقصد هذا المعنىٰ بحذافيره علىٰ هذه الشاكله، وبهذا الاسلوب البلاغي، أم إن خليلاً أراد أن يعظّم من شأن بلاغة شكسبير أكثر مما هي علىٰ حقيقتها الطبيعية؛ أملاً في إضفاء روحٍ أخرىٰ غير الذي تعهدها في أن العمل إن يُترجم يذهب من شأنه شيئاً، ولا يبقىٰ فيه إلا القليل الذي لا ينضح؟ أم ترىٰ مطران أحبّ أن يخبرني بترجمته هذه أنه كما هو له شعرٌ يذهب بالألباب؛ فنثره له ذات الأثر والقدر! وقد أعجبني وربّ مكّة.
وإن تسألني فإني لا أرىٰ سبباً جلياً وجيهاً مقنعاً لقلّة اشتهارها أمام الناس، فليست هي بصيت تاجر البندقية، أو يوليوس قيصر، أو هاملت، أو روميو وجوليت! ولا أدري سبب خفوت اسمها، وضعف انتشارها. قد سمعت عنها لأول مرّة قبل ٨ أيام في تطبيق أبجد! إذ كان من ضمن الإقتراحات. وإني بهذا والله أجد التطبيق قد حلّل أموال اشتراكي فيه: ٧٩ ليرة تركية (ربطة الخبز السوري ٥ رغفة بـ٨ ليرات). فالحمد لله.
أحبَرَها أبو هاشمٍ الأُمّي، فــي كوتاهيا، تركيا
شفق الأحد ٤ صفر ٤٥ه الموافق ٢٠ آب ٢٣م
تعليقات
إرسال تعليق