قصة قصيرة: سياحة في سوريا ١
أختي العزيزة ريم، كيف حالكِ؟ مضىٰ وقتٌ لم أرسل إليكِ، فاعذريني يا ابنة أمي. أنتِ تعلمين أننا هاهنا في البلد الإنترنت فيه مُنقطعٌ، لانقطاع الكهرباء، والكهرباء منقطعةٌ لانقطاع الغاز، والغاز منقطعٌ لانقطاع البشر، والبشر منقطعين لانقطاع.. لا أدري، لم يخبرونا بعد سبب انقطاع البشر، وما الذي انقطع بعده. لكنني أعلم أن الحياة هنا مقطوعة كما الأمر في كل شيءٍ. ولكن حمداً لله لم ينقطع الهواء. علىٰ أنني علمتُ من مصادر موثوقة -العم أبو أسعد البقال- أن الحكومة ستفرض ضريبةً عليه، فهم يقولون أن الضربات الكيماوية لم تقرب دمشق، وهذا من سبيل حظكم يا أهل دمشق، ولكن هذا ليس بالمجان، فأقلّ ما فيه أن تدفعوا الضريبة، ثم إن الهواء نظيف، وأنتم تعلمون أن الاحتباس الحراري الذي غزا العالم كان بصنيع الغرب الإمبريالي الصهيوني، لذلك حين تذهب إلىٰ الدول الصناعية الظالمة تجد الهواء هناك ملوّث، أما هنا في دمشق فالهواء ليس كذلك!
ثم إنهم برّروا هذه الضريبة بأن الحكومة لن تصرفها علىٰ مشاهير التواصل الاجتماعي لكي يصوروا الأمان للناس في سوريا؛ بل ستنفقها علىٰ محاربة التلوث، ومنع العصابات الارهابية -لم يحددوا أي عصابة- من قصف دمشق بالكيماوي، وأيضاً منع انتشار المخدرات في محيط دمشق، وإقصارها علىٰ حوران فقط، وقطع الطريق علىٰ شعبنا الفاسد من ينشطوا في حركة التهريب بين البلد وجيرانها من البلدان، فلا تستطيع الحكومة أن تُحصّل الضرائب من المواطن. ثم إنهم سينفقون بعضها علىٰ إخواننا اللاجئين السوريين في المخيمات. وقد علمتُ أيضاً أن وزير الهجرة قد صرّح بأنهم في صدد إنشاء جدار علىٰ الحدود لمنع تدفّق اللاجئين السوريين إلينا.
أكتبُ لكِ هذه الرسالة وأنا جالسٌ علىٰ مقعدٍ بمحاذاة بردىٰ، وأظن أننا في حفلة تنكرية، إذ أن بردىٰ الذي قال فيه أمير الشعراء:
سلامٌ من صبا بردىٰ أرقّ
ودمعٌ لا يُكفكف يا دمشقُ
ومعذرةُ اليراعة والقوافي
جلالُ الرزءِ عن وصفٍ يُدقّ
قد تنكّر، فنزع رداءه الأزرق، ولبس رداءه الذي.. الذي لا أدري، رداءٌ ملوّن بعدّة ألوان، منها ألوانٌ لم أطّلع عليها في الكتب التي قرأتها، ولا درسناها في المدرسة يوم كنّا صغاراً. يُخيّل إلي أنك ستعرفينها، إذ أنها تشبه ألوان أحمر الشفاه الذي ابتعتيه منذ مدّةٍ ليست ببعيدة. علىٰ أن لون بردىٰ لم يتغيّر فحسب، بل كذلك رائحته، ولا أذكر رائحته قبل ٢٠١١ إذ كنت صغيراً، إلا أنني أجزم أنّ رائحته تغيرت. لقد سألت العم صبحي الذي يبيع الشاي في أسفل الشارع عن علّة تركِ البلدية للنهر علىٰ هذا الحال، فقال لي: لقد جفّت أجزاءٌ كبيرة من بردىٰ، واحتارت البلدية أين تضع القمامة، فقد كثرت حتىٰ ملأت المؤسسات الحكومية، فاختاروا هذا المكان، حتىٰ إذا ما أتىٰ يومٌ، وطاف بردىٰ وفاض كما كان يفعل سابقاً؛ فتتحرجم تلك القمامة، وتكوّن سداً! وقد علمتُ أن أحد الطلّاب وهو ابن جاري عمل رسالة في الدكتوراة كيف يستطيع توليد الكهرباء من هذه القمامة، وجاء وقت المناقشة، إلا أن الكهرباء انقطعت في تلك اللحظة ولم يكملها. فسألته عن إذا ما أكملها بعد ذلك، قال: لا، لم يفعل، ولا يهم، فقد نال درجة الدكتوراة علىٰ أيّة حال.
وبجواري يجلس عمٌّ قد شابت لحيته، ووهن عظمه، يرتدي خفين أحدهما مثقوبٌ عند الإصبع الكبير، وقميصه مرقّعٌ بكيسٍ بلاستيكيٍّ أزرق. يتناول شطيرةً فارغةً. وقد حادثته قليلاً ريثما يأتي عباس مرشدي السياحي لنذهب إلىٰ حلب، وقد علمتُ أن هذا العم كان محاضراً في جامعة دمشق، وكتب رسالة دكتوراة في الأسلوب الأدبي للقائد الخالد، وفكره التنموي لتحديث البنية التحتية للعدو الصهيوني. وحينما سألته عن سبب عدم عمله في الجامعة بعد الآن، أجاب بأن العدو الصهيوني ما عاد عدوّاً، وكرهت إدارة الجامعة أن يكون بين طاقمها التدريسي معادٍ للساميّة. تعجبتُ، وأردتُ أن أسأله، لكنني تركته يكمل شطيرته الفارغة، وذهبتُ مع عباس.
هل حدّثتكِ عن مرشدي السياحي عباس، وهو من حمص، وقد جال بي في معالم كثيرةٍ في دمشق، لقد ذهب بي إلىٰ مضايا، هناك حيث أراني مقبرةً، قال أنهم قَضَوا فيها بسبب هجوم يزيد عليها. وحينما سألته عن كيف ذلك ويزيد عاش قبل ألفٍ وأربعمائة سنة؟ أجاب بأنّه لا يعلم، فهكذا أخبره أستاذ الرياضيات في المدرسة! سألته وما علاقة أستاذ الرياضيات بذلك؟ قال: لقد قرأ هذا في قرطاسٍ لفّ به شطيرة الفلافل حينما كان يعمل في العراق. فتعجبتُ من ذلك، وسألته عن علاقة كل هذا ببعضه، فأجابني ببعض الكلام لم أستطع فهمه، إذ كان سريع التحدّث، وكلماته غير مفهومة.
لم أدري ما علاقة الرياضيات، بالأستاذ، بيزيد، بمضايا، بالعراق. ولكن علىٰ أيّة حال، مشيت معه وقد ذهبنا إلىٰ حي التضامن، قال لي المرشد أنه هنا حدثت وقعة أصحاب الأخدود، وأن الملك الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وفرنسا قد أمدّوه بالسلاح والنفط الخليجي لحرق الفلسطينيين فيه، وكانوا يسقطونهم في الحفرة، ثم يرمون عليهم الزيت بتعاون من صدام حسين. فتعجّبت من ذلك، فهذا يعني أن قارتي أميركا قد اكتُشِفتا قبل ألف عامٍ ونصف! لم أستطع أن أسأله بتعجب بل اكتفيت بالذهول، إذ قد بدت علىٰ ملامحه علامات الضجر، فقد قال لي: انتظر قليلاً ريثما أشرب المتّة مع السيجارة. كان هذا بعد أن سألته عن إمكانية ذهابنا إلىٰ تدمر غداً.
أخبرني أن الطريق إلىٰ تدمر محفوفٌ بالمخاطر، وذاك أن روح الملكة (زنوبيا) تطوف في الأرجاء ولا ترضىٰ أن تعفو عن أحد إلا أن يُعطي المرءُ حرس الطريق كروز دخان. سألته مرةً أخرىٰ عن حصر العفو بكروز دخان لا غيره من الأشياء، قال: لا أعلم، ولكن يقال أنها تُحبّ أن تدخن مع زوجها (أذينة) في العشية.
ذهبنا راشدين إلىٰ تدمر، وذلك عن طريق ساعي طريق يقال له أبو حيدر، وقد طلب مني أن أعطيه الكروز لكي يعطيه لزنوبيا، سألته عن معرفته إياها، فأجاب: أنه يعرفها منذ ٢٠ سنة، وقد التقىٰ مع ابنها ولعبا القهقور. وحين بدأت الحرب علىٰ العراق، كانا يُساعدان الناس لدخول سوريا مجاناً مقابل كروز أيضاً أو كيس شاي إن لم يجد الكروز، فهي رحيمةٌ بالناس مشفقةٌ عليهم.
وصلنا إلىٰ تدمر، ورأيناها حقاً تدمّرت، ولم أظفر منها بشيءٍ أمتّع ناظرَيّ، ولكن الجميل فيها أنّك بصراحة لن تستطيعي التفريق بين ما تهدّم بفعل الزمن وتباريحه، أو بسبب أفعال (اللي ما بنذكروا) كما وصفهم لي أبو حيدر. ووجدتُ هناك سُيّاحاً هولنديين وبلجيكيين، لكنهم كانوا يقطعون أجزاءاً من الأبنية ويضعونها في كراتين ويغلفونها. سألت أيضاّ عن السبب فقال لي أبو حيدر: لا تسأل أسئلة كثيرة، اتفرج وأنت ساكت. (بلهجة غليظة، لم أقدر علىٰ تقليدها)، إلا أن عباس أومأ إليّ أنهم سينقلونها إلىٰ قرب بردىٰ؛ كي لا نتعنىٰ في مشاهدتها، لأن حكومتنا الموقّرة قد أقسمت علىٰ أن تُريح المواطن من متاعب السفر والعنت لمشاهدة تدمر وهي علىٰ مسافة أميال عديدة، وبيننا وبينها الكثير من جنود حزب الله، أعني جنود زنوبيا الذي يطلبون كروز دخان للملكة.
سأرسل لك لاحقاً يا أختي، فبعد قليل سأذهب لكي أسحب النقود التي أرسلتها إلي من البنك، وقد طلبت (الهاف لوري) لهذا الأمر. واستأجرت ٣ عمال لتحميل النقود فيها. وأشكرك علىٰ العشرة آلاف دولار.
أخوك الحبيب.
تعليقات
إرسال تعليق