تقلّب العباد
طابت نفسي من ذاك الذي عدمه الله الحياء، وحرمه من مروءة العرب، وأخلاق الإسلام. فإنك لتحسبه من أهل الصلاح، وأهلاً للقربىٰ، وموضعاً للصحبة، فتوطّئ له موضعاً عندك، تقرّبه وتدنيه، وتجعل بينك وبينه باباً للأخوة. وأنت علىٰ هذا محسنٌ بالناس الظن، مترفعٌ عن معاتبتهم في عظائم الأمور ولِممها علىٰ حدٍّ سواء، فأنت لا تجعل أول عهدك بالناس سوء الظن؛ ذاك أنّك بهذا لا تجلب إلا الأسىٰ نفسك، والنكد علىٰ روحك، وإذ تراك بذاك الظن قد أجهدك نفسك إذ صرفت فكرك وذهنك نحو ما لا طائل به من نفعٍ يُمنّىٰ، أو غايةٍ تُرجىٰ.
أترىٰ حسن الظن ذاك، الذي تهبه للقريب والبعيد، إذا تجعل الناس فيه علىٰ صعيدٍ واحدٍ، وما الغاية منه كل الغاية إلا اتباع هدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، إذ يقول جعفر الصادق رحمه الله: ”إذا بلغك عن أخيك الشيء تُنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلىٰ سبعين عذراً، فإن أصبته، وإلا، قل: لعل له عذراً لا أعرفه!“
لكنّك لا ترىٰ الشيطان فقط الذي يعين عليك نفسك، بل إن الناس قد حملوك مع قرينك أن تسيء بهم الظنون، وتسرف في الشكّ بهم، حتىٰ قد بتّ ترتاب منهم، وتحسب لقول بعضهم ألف حساب، وتأوّل لهم كل مقالة، وتضع لأفعالهم تفاسير لربما ما قصدوها بذاتها لكنّ سوابقهم نمّت عن حوادثهم اللاحقة، وصارت لك عنهم صورةً نمطيةً لا تتزحزح ولا تتغير، ولا أراها تتزعزع عن مكانها يوماً، صارت مطبوعةً في ذاكرة المرء، مُخزّنة فيه، أنىٰ أن يتسنىٰ له تبديلها. رفعت الأقلام عنها، وجفت الصحف.
ثم علىٰ ما صنعوا تجاهد أن تبقىٰ كما أنت.. أنت أنت من مكانك، قابعٌ حيث أنت، يتبدّل الناس فتكره ذلك منهم، وتكره التبدّل، فتكره أن تتبدل= إذ ”لا يؤمن أحدكم حتىٰ يحبّ لأخيه ما يحبه لنفسه“. فكيف يرضىٰ علىٰ غيره ما لا يرضاه علىٰ نفسه. وإن رضيه، فأين المبادئ؟ وأين القيم؟ وأين الخلق الذي حثّ عليه الشرع؟ وأين؟ المروءة؟ وأين الشيم؟ ألا يمنعهم الحياء من ذلك الذي آلوا إليه من إنقلابٍ في الهيئة، وفساد في الدين والفكر، وقد قال ﷺ: ”لكلّ دينٍ خلق، وخلل الإسلام الحياء“!
والحياء الذي هو من الإيمان: ”الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذٰى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان“. فأين المروءة والتذمّم؟ وأين حفظ العهود؟ وأين حفظ الأرحام؟
كثرة الأينات والتساؤلات والعجب واحد. ومازلت في حيرةٍ من تقلّب طبائغهع الناس، حتىٰ هُديتُ بفضله ﷻ، إلىٰ أن: ”القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن؛ يُقلّبها كيف يشاء“، فإن المرء في دينه: ”فتناً كقطعِ الليلِ المظلمِ، يُصبحُ الرجلُ مؤمناً ويُمسي كافراً ويُمسي مؤمناً ويُصبحُ كافراً، يبيعُ دينه بعَرضٍ من الدنيا“، فمن يتبدّل طبعه وأمره مع رب العباد، فمن الضمين علىٰ أن يثبت مع العباد؟
أحبَــــرَهــا أبو هاشمٍ الأُمّي، في كوتاهيا، تركيا
مغارب السبت ٣ صفر ٤٥ه الموافق ١٩ آب ٢٣م

تعليقات
إرسال تعليق