آكل الكتب




علىٰ أن صاحبكُم هذا كان حديث عهدٍ بالقرءاة بكل تلك الروح التي جلبتُ له نقاوةً في الفكر، إلا أنّه أحسّ بأن حياته منذ قديم عهده في الكويت كانت مرتبطةً بالقراءة بشكلٍ أو بآخر.

وذاك أنّه كلما عاد والده من العمل، فوجده جالساً -حتىٰ ولو كان لتوّه قد عاد من المدرسة شتاءً، أو من العمل صيفاً-؛ همّ بتقريعه وتأنيبه لفراغه ذاك. ولطالما تحسّر والده عليه بأمنيته الشهيرة، حتىٰ إن صاحبكم هذا ما زال يسمع دويّها علىٰ مشارف طبلة أذنه -وهي بالعامية الحورانية-:
"إيمتىٰ راح أشوفك يا مْحَمّد تآكل الكتب!"
وهي هي نفس أمنية أمّه، إذا لطالما قالت:
"مُنىٰ عيني أشوفك يا مْحَمّد قاعد بتوكل الكتب أكل!"

ويا لقدر الله، ويا لقضاءه.. دارت الأيام، وانقلبت السنون، وأخذ كل شهرٍ يأكل سابقه، وكل عامٍ ينقضّ علىٰ لاحقه، حتىٰ صارت الأيام تجيء وتلفي، وصاحبكم هذا صار يأكل الكتب "بلا ملح". ومازالت الأيام تأتينا بالعجائب.

وجد دعاة أكل الكتب (أمي وأبي) أنفسهم يأمروني أن أشفق علىٰ نفسي، لما ألمّ بي من جشع القراءة، وصار أبي يرسل لي الأموال، ثم يشدّ علي في القول ألا أصرفها في الكتب، وأن أدع بعضها لأقوّي من عزيمتي، وأشدّ بها جسدي. فليس رائجاً أن من يأكل الكتب يشتد عوده، ويستند ظهره، ويمتلأ جسده.

وعلىٰ الطرف الآخر، نرىٰ سليلة حوّاء -أمي-، قد أخذت تتوعدني بزعلها إن لم أبتع بالمال الذي يرسله لي أبي ملابساً. فكنتُ أداعبها قائلاً: أما يسرّك أن أكون كعمر، وترين علىٰ ثوبي ١٠ رقعٍ ونيف.
فتقول لي: ثكلتك أمّك -هاي من عندي هي ما قالتها، إنما تقول لي يلّا عليها الدايّة-، كان عُمرُ ومن معه زهّادٌ في دنياهم، صبَت عيناهم إلىٰ جنان ربّهم، وتاقت لمرضاته. أما عصرنا هذا ينظرون إلىٰ الشكل واللون، ورتابة المظهر، وحسن الهيئة. وحين تتزوج؛ لا أحسب أن إحداهن ستنظر إلىٰ مكتبتك، ولن تسألك عما فعل الجاحظ في كتبه يوم كان يكتبها، ولا سبب إحراق كتب ابن رشد، ولا لماذا لم يتزوّج ابن تيمية، وما علّة نكبة البرامكة، ولا سبب ركون السلطان عبد الحميد إلىٰ السلم مع مخربي ٣١ مارت. بل ستنظر إلىٰ ملبسك وهندامك، وهل قميصك مكوي، وهل وسروالك مطوي.
فكنتُ أردّ: آه يا أمي.. لو أجد من تطلب مني ٤٠٠ كتابٍ مهراً. لحزت المكرمتين؛ الكتب والزوجة الصالحة.
ودّت أمي لو كنتُ أقول هذا عندها وليس في تركيا، لأخدت أقرب (شحاطةٍ) تعلّم قناص بغداد كيف يكون القنص بحقّ!

وإن صاحبكم هذا يا أحبّة، قد لقي في مضريّته عنتاً. إذ ناهيك عن طول صبره لتجميعها، أيام أول خمس كتبٍ ابتاعها في آذار ٢٠٢٠م، وهنّ لعبد الكريم بكّار. حاشا من ذلك ثلاث كتبٍ قد قدم بها من الكويت: الجريمة والعقاب لدوستوفيسكي، وكيف تكتسب الأصداق وتؤثر في الآخرين لديل كارينجي، والنظام من أجل النجاح لكينيث زيجلر.

وأخذ ينظر بتلهّف لمكتبات غيره، فيرىٰ أحدهم لديه ذكريات أديبنا أديب الفقهاء علي الطنطاوي رحمه الله في ثمان مجلدات؛ فيغبطه عليها، ويتمنىٰ لو كان له مثلها، فيحصل عليها بعد ستّة أشهرٍ ونيّف.
ثم يلحظ لأحدهم كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري رحمه الله؛ فيغبطه عليها ويتمنىٰ علىٰ الله لو كان عنده مثلها. فيحصل عليه بعد سنةٍ ونيّف.
ثم يجد أحدهم وقد تملّك كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن لشيخنا عبد العزير الطريفي وهن في خمس مجلدات؛ فيغبطها عليها، ويدعو ربّه لو حاز مثلها؛ فيهبّهُ ربّه ما رجا بعد سنتين أو أقل.

بل وصار يسخر منه بعض صحبه، إذ يقولون: باتت مكتبات تركيا كلها تعرفك، ولعمري لو أن بعض المكتبات اقتصروا علىٰ البيع لك وحدك دون غيركَ لما افتقروا.
قد صدوقوا في بعضها، ولكن لا تحسبوا أنما كل مكابتي قد ابتعتها؛ لا، بل كان بعضها هديّة من المكتبات، وأخرىٰ من بعض صحبي، وشيئاً إنما جائزةً ربحتها.
فقرابة ١٠ كتاباً منها ربحتها من المسابقات. ومثلها هديّةً من المكاتبات، ومجموع ما سبق هديّةً من قريبٍ لي -هو خالي حسن ولكن لا تخبروا أحداً لأنه نبّهني علىٰ ألا أُذيع ذلك، وأنا كما ترون أمتثلُ لأمره-. وشيئاً مثلها أو أقل من بعض صحبي.
والباقي يتراوح بين شراءٍ بملغٍ واحدٍ دفعةً واحدة، وبين كتبٍ أخذتها بالتقسيط.

وعلىٰ هذا المنوال تمضي الأيام، كلما دعا ربّه شيئاً أجابه ربّه ﷻ. حتىٰ صارت له مضريّته إلىٰ ما صارت إليه.
غير أنه أنذاك ما كان سمّاها كما سمّها.. كان كلّما اطّلَع أحدهم علىٰ ما أناله الله من فضله وواسع كرمه، ومنّته وفسيح عطاياه؛ قيل له: إن كتبك هذه فيها ضررٌ كما لها نفعٌ؛ فأقصر يرحمكم الله.
وكان هو لربما جد في مجادلتهم أو لنقل مجالدتهم -فإنها تصحّ أيضاً- في قولهم ذاك، وربما سخر منهم واستهزء بقولهم واستخفّ برأيهم. ولربما سكت فكان سكوته أبلغ ردٍّ علىٰ رأيه فيهم. وربما أمال رأسه إشعاراً لهم بتقبّل رأيهم علىٰ مضض.

وفي حقيقة الأمر.. ما كان صاحبكم يُقصر، بل كان يزداد ويزيد ما شاء الله له أن يُزيده. حتىٰ أحبّ أن يضرب عصفورين بحجرٍ واحد، فسمّاها «المضريّة»؛ فهو من مضر فهذه واحدة، ولضررها عليه هذه ثانية، فإن شئت شدّد الراء، وإن شئت خفّفها؛ فلا حرج في هذا ولا بأس في ذاك.

أحبَرَها أبو هاشم الأُمّي، في كوتاهيا، تركيا
ضــــحىٰ الخميس، ١ صفر ٤٥ه‍، ١٧ آب ٢٣م


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١