قصّةٌ قصيرة: العقاب والجريمة



عاد بعد تعبٍ وكدٍّ، ولقي من العمل ما لقي منه صبّاً وجهداً. والطريق طويلٌ إلىٰ البيت، طولاً تحرّ له الأكباد، وتسقم منه الأفئدة من طول أنفاس صاحبها المتسارعة. ودقّات قلبه التي تتبع بعض بعضاً، حتىٰ وقد شعر أن قلبه قد يخرج من موضعه، وكان كل همّه كيف يُعيده إلىٰ مكانه الصحيح.

رعبٌ ملأ عليه نفسه، وتوجّسٌ أضنىٰ عليه وقته، وأحسّ بأنّه في موضعٍ كموضعه في الإختبارات، يوم كان يشعر أن الزمان يطول وهو هو بذاته، وأحسّ بأنّ هذا الوقت سيمضي لا محالة؛ لكنّه يستعجله.. يُريد أن ينتقل من هذه اللحظة تماماً كما يفتح مقطعاً مصوّراً علىٰ منصّة اليوتيوب، أو كما يُشغّل مرأىًٰ (فيلماً) علىٰ موقع إيجي بيست، فيُقدّم المشهد.. غير أن المشهد لا ينقضي حتىٰ يدخله إلىٰ مواقع إعلانيةٍ أخرىٰ يعود بعدها إلىٰ موقع المرأىٰ ومعه سيارة روز رايز لم يُصنع منها إلا ثمانية نسخٍ؛ أحدها لكرستيانو رونالدو وتوم كروز، وقصرٌ في ميامي بجانب ليونيل ميسي، وزوجتين واحدةٌ شقراء والأخرىٰ سمراء ومعهما ٣ جوارٍ؛ اثنتين للتسرّي وواحدةٌ للخدمة. هذا كله من إعلانات إيجي بيست.

أرأيتم تلكم اللحظة علىٰ طولها= هي التي ألفاها في طريقه إلىٰ المنزل. ولا أعني أنه يبعُد ميلاً أو شيئاً من هذا، لا.. أحسبكم ظننتم أنّ بينه وبين العمارة التي يقطُن فيها؛ عِماراتٍ متقاربة، وسياراتٍ تقطع الطرق بصورةٍ عشوائيّةٍ كما شوارع الهند.

لا.. كانت شقّته في أعلىٰ العمارة، ولا يفصلهُ عنها إلا ذاك المصعد الكهربائي، أو السُّلّم إن كان المصعد مشغولاً بعجائزٍ يتّكئنَ علىٰ عِصيهُنّ، أو فتياتٍ بعمر الزهور يركضن خلف القطط اللاتي هربنَ منهنّ إلىٰ الأعلىٰ فيلحقنَ بهنّ عبر المصعد.
وهنا كان لزاماً عليه أن يأوي إلىٰ السُّلّم يصعده، علىٰ أن الجو كان فيه قيظٌ لم يعهده من قبل هاهنا في هذا البلد الذي قدمه. فكان العرق يتصبّب منه كقطرات بَرَدٍ تُصَبّ علىٰ زُجاج السيارات فيقضِمها، وقد شَعَرَ بقطراتِ العرق تلك تلامس الأرض؛ فكأنّه سمع صوت الارتطام. أو شعر أن في تلك اللحظة التي وَجِم يُفكّر فيها كيف يصعد بسرعة؛ أنّه يسمع صرير النمل، وهرج الذباب، وحتىٰ لو جاءه رجلٌ في أقصا المدينة يهتف به همساً.. لحسبتُه يسمعه.
جعل يضع الاحتمالات اللازمة، ويُعدد خياراته. فما وجد غير أمرين؛ أولهما: أن يسرع ركضاً إلىٰ شقته دون أن يلتفت وراءه، بحيث لن يلمحه جاره. وثانيهما: أن يصعد درجةً درجةً، خطوةً خطوةً، دوراً دوراً ثم ينظرُ هل جاره قد فتح بابه أم لم يفعل.

أطرق قليلاً يبتّ في قراره، جعل يحسب احتمالات النجاة لكلا الخيارين. غير أنه رأىٰ الأول غير مناسبٍ لعلّةٍ مُبرهنة؛ أنّه قد تعب من الحر، وأضناه الاستعجال. لذلك ألغىٰ الاحتمال الأول، وركن إلىٰ الثاني ورآه أصوب من أخيه.
فصعد متمهّلاً متروّياً.. رويداّ رويداً علىٰ أطراف أصابعه، يسير وكأنّ علىٰ رأسه الطير، وكأنّه يمشي علىٰ بيضٍ يخشىٰ تكسّره.

صعد الدور الأول، وما أحسّ بهمسٍ.
ثم الثاني وما شعر بجلبةٍ.
ثم الثالث وما أحسّ بأرماس غيره.
ثم الرابع.. وقد سمِعَ صوتاً! جحُظت عيناه يحدّق مليّاً، فخاف أن يكون ما يخشاه.. أن يظهر جاره إليه وهو الذي يتّقِي رؤيته. دنا إلىٰ الجدار؛ فجزع لتحرّك شيءٍ من تحته.. كانت قطّةً فحسب! شتم ثم احتسب واستغفر. واستمر يصعد.
الدور الخامس.. لا شيء هنا. بقي الدور السادس والسابع.
السادس.. نعم، هنا حيث جاره ذاك. لقد تفاداهُ والحمد لله، مرّت لحظته تلك علىٰ سلام. كانت شقّته في السابع. دخله وحمد ربه وشكره أن ما لقي جاره. أغلق عليه بابه. ثم سكن إلىٰ مقعده يريح نفسه من عناء الطريق.

وإذ فجأةً.. يُطرقُ بابه. فانقبض صدره، وشُدّ عَصَبُهُ. فهرع إلىٰ الباب. فنظر من العين السحرية. وإذ بجاره!
- أعلم أنّك هنا يا «هانئ». افتح الباب قليلاً.. أريد أن أحادثكَ.

فتح «هانئ» الباب لـ«أبو محمود»، هو جاره منذ مدّة، كان في بادئ الأمر أحبّ صحبته ولقياه، واستنأس به جيرةً ومحبّةً. سرعان ما طغىٰ ذاك عن حدّه. وصار «أبو محمود» متطفلاً علىٰ «هانئ». لا يمرّ عليه يوم ولا ليلة إلا و«أبو محمود» يطرق بابه.
لا يطرقه ثلاثاً ثم ينصرف كما أوصىٰ ربنا في كتابه، بل يستمر بالطرق إلىٰ أن تفتح، وإن صبرتَ ولم تفتح. عاد أدراجه إلىٰ شقّته، ثم يفتح هاتفه، ويتّصل عليك سبعة اتصالاتٍ فما فوق؛ حتىٰ يخُيّل إليك أن شركة الاتصالات ستقطع الخطّ وتلغي الاشتراك، وتحذف الملف في الشركة عن جميع سكّان الحي وليس لكَ وحدكَ أو للعمارة فحسب.

لقد كان هانئ يُقدس الوقت، كان يُسأل عنه فيقول: ‏‎”الوقتُ هو أنا غير أنّه إياي.“
وكان طوال الوقت يُحدّث قائلاً: ‏‎”كل شيءٍ يُباع ويُشترىٰ حتىٰ الوطن وسيخ الكباب؛ إلا الوقت والكتاب. ‏“

فكان يُبغض من ينزع عليه خلوته، ومن يفجعه بمقدمه في ساعة قراءته لكتابٍ أو كتابته لمقالةٍ أو خاطرة. وكان تراوده الظنون.. فيكبتها داعيَ الدين. كان يهمّ بالصراخ في وجه المتطفلين علىٰ وقته، أؤلئك اللزجين، الذين لا يلصقون أنفسهم بك إلا كما يلتصق صمغ اليوهو! وقد أراد يوماً أن يبطش بأحدهم فعل ما يكرهه؛ فتورّع مخافةً لله.
فتح له الباب، وما قال له: مرحباً تفضّل -يقصد بها أن يتكلّم إن كان لديه شيئاً يقوله-؛ فتفضّل «أبو محمود» حقاً. دخل إلىٰ البيت وما قصد «هانئ» أن يدخل. نعم دخلها عنوةً كما فعل الفاتح بالقسطنطينية.

أطرق إليه «هانئاً» محدقاً به. ثم تحدّث «أبو محمود»، فقال: هل سمعت أن الكونغرس قد عقد جلسةً استثنائيّة، يحقّق فيها مع أعضاء من وزارة الدفاع البنتاغون في قضيّة اكتشاف أطباق طائرةٍ مأهولةٍ شُوهِدت فوق كالفورنيا؟
- لا، لم أعلم. ولا أحبّ أن أعلم.
- لقد كانت جلسةً مطوّلةً، اشترك فيها الديمقراطيين والجمهوريين في الرأي، وأخذوا..
- قلتُ لا أريد أن أعلم. ما رأيك أن أصنع لك فنجال قهوةٍ.. وا.. أيضاً -ينظر إلىٰ ساعته التي هي معطّلة أساساً- عندي موعدٌ مهمٌّ جدّاً. سأذهب لأصنع لك واحداً كي أذهب.

لحقه «أبو محمود» إلىٰ المطبخ، ويكمل: نعم، أي كنّا.. صحيح.. كنا عند الجلسة. يُقال أن جنزال البحرية الأمريكية قد شاهد طبقاً طائراً، ظّنه في بادئ الأمر أحد البالونات الصينية التي تُطلقها بكّين للتجسس علىٰ المنشآت العسكرية الأمريكية. سرعان ما تبيّن له أنها أطباق..
ظل «أبو محمود» يسرد له ذاك الخبر، وأكمل ما أكمله ثم ينتقل إلىٰ موضوعٍ إلىٰ موضوع، و«هانئ» كل دقيقةٍ ينظر إلىٰ ساعته تارةً، ويتثاءب طوراً آخر.

بعد سويعةٍ من حديثه الذي لم ينتهي بعد.. «أبو محمود»: لم أشاهد مرأىٰ (فيلم) باربي، قيل لي أنّه يحمل قصّةً مؤثرةً، حتىٰ أنّها استطاعت منافسة أبونهايمر مخترع القنبلة النووية التي أطلقتها أميركا علىٰ يوكوهاما ونازاكي
- تقصد هيروشيما وناجازاكي.
- نعم تلك التي ذكرتَ، سأشاهد الفيلم.. فهل تريد مشاهدته؟
- لا عندي موعدٌ مهم.. (واستمر بالتثائب والنظر إلىٰ ساعته المعطّلة)
- هل تدري أن الماسونيّة العالمية جعلت من شهرة باربي تصارع شهرة أوبنهايمر. وسمعتُ أنّهم كانوا سبباّ في تفجير أربعة مخازن قمحٍ في أربعة دول: تركيا والبرازيل وإدلب والفروانية.
- إدلب والفروانية ليستا دولاً.
- حقّاً! عجيب كنت أظنهما بجانب تونس الخضراء.
- لا ليستا كذلك.
- هل تعلم أن تونس كان اسمها إفريقية، وقبل ذلك كان اسمها كرتاجة.
- تقصد قرطاجة.
- نعم صحيح. وقد استطاع حمبهل أن يحتل أجزاءً من أوروبا بسبب حنكته السياسية والعسكرية.
- تقصد حنبعل (واستمر بالتثائب والنظر إلىٰ ساعته المعطّلة)
- نعم صحيح. أوروبا في ذلك الوقت..
- ما رأيك يا «أبا محمود» أن نستمر لاحقاً، فعندي موعدٌ ضروريٌّ مُهم، يجب أن أذهب إلىٰ الجامعة
- لا بأس.. لا بأس.. صحيح، هل تعلم أن أول جامعة بالعالم كانت جامعة القرويين؟
- لا، لا أعلم. ولا أريد أن أعلم. يجب أن أقابل الدكتورة في الجامعة لكي لا ترسبني في المادة.
- لا بأس.. لا بأس.. صحيح، هل تعلم أن جامعة القرويين التي هي أول جامعة أُسّست في التاريخ كانت مؤسستها امرأة؟
- لا، لا أعلم. ولا أريد أن أعلم. يجب أن ألحق بالحافلة كي ألحق بالدكتورة قبل أن تغادر الجامعة، لأن غداً إجازة ولا يسعني الانتظار أكثر..
- لا بأس.. لا بأس.. صحيح، هل تعلم أن جورج برايطون هو أول مخترع للمحرّك..
- لا، لا أعلم. ولا أريد أن أعلم..
- لا بأس.. لا بأس.. صحيح، هل..

نفذ صبره، فذهب إلىٰ المطبخ، وأخذ السكّين.. وبعد لحظةٍ كانت الغرفة مطليةٌ باللون الأحمر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١