نظرةٌ علىٰ رواية مَمُو زين لأحمد الخاني

 

أحسبني وأنا أقرأ الرواية وقد استبدّ بي العجبْ. أعني كنت بادئ ذي بدءٍ أملك بعض التصوّرات الخاطئة عنها، إذ لم أطّلع ولو لمرّةٍ واحدةٍ علىٰ تفاصيلها. فمن عاداتي إني ما إن أسمع بروايةٍ، فأقل قليلي أن أعرف اسم صاحبها، وأن أعلم تاريخ صدورها، وإلىٰ أي مدىًٰ وصل تأثيرها. ما كنت أعلمُ عنها إلا أنها من مطالع الأدبِ الكوردي، وأنها بمنزلة مسرحيات شكسبير للإنجليز، ورويات فيكتور هوجو للفرنسيس، وغوتة للألمان، أما العرب فلهم من الأدب ما يقصُر المرء عن ذكره. وما كنتُ لِأدري أن الرواية قد كُتِبت في القرن السابع عشر الميلادي، وأنّ كاتبها امرؤ من رجالات الفقهِ والتصوّف. قد حسبته رجلاً مشتغلاً بالأدب والرواية وحدها، غير ضليعٍ بغيرها. وأنّه لا شأن له إلا بالحبّ والعشق، إذ يصعُب أن تلقىٰ من يجهل اسطورة مَمُو وزين، كما من يجهل ليلىٰ ومجنونها، وعبلة وعنترها، ووجوليت وروميوها. فقصص العشق أخلدُ من حَكايا الحروب، وأبقىٰ في ذاكرة العوام والخواص علىٰ حدٍّ سواء من قادةِ المعارك، ودائرة الحُكم والرياسة.
وقد خُيّل إلي أنها لا تبلغ إلا أن تكون كعادة كلاسيكيات الأدبِ الروائي، وأنا لتقديسي للسان العربي لا أحبّ مفردات العجم، فأستبدل مفردة (كلاسيكيات) بـ(جِزال)= وهو العظيم من كل شيءٍ. فإن كان هناك ما هو جِزال أدب الكورد: فمَمُو زين، وجِزال أدب الفرس مثلاً: شاهنانه. وجِزال أدب الترك: تاريخ لغات الترك. أما جِزال أدب العرب: "عِد وخربِط"، لك منها علىٰ سبيل المثال لا الحصر: ألف ليلة وليلة، مقامات الهمذاني والحريري، حي بن يقظان.. إلخ.
نشرع في تزبيد الرواية وتقريرها:
أما القصة، فقد كانت كما اعتقدتُ، لها من اعتيادية السرد كما تراه في الأدب العربي القديم في ألف ليلة وليلة، وحتىٰ في الحديث. وأقرب ما أجده إليه هي رواية الأجنحة المُتكسّرة لجبران خليل جبران. إذ أشعر أن بساطة القصة، ونقاوتها؛ ما تُسرَد علىٰ الطفل الذي عقِل لتوّه، فلا يملّها ولا يسأم منها ولا يضُجر. يسير في ركاب الأحداث وكأنّه مُواقِعٌ لها، شهِدَها بأمّ عينه، ولَحِظَها في حياته شيئاً، أو وجدها فيمن يعرف. هي من القصص التي تكررت في صُلبِ التاريخ، وفي خواطِرِ الناس وخيالاتهِم وتصوّراتهِم= أن رجلاً أحبّ امرأةً، حتىٰ شَقي بها، ولاقىٰ بذاك العشق عنتاً، وجهداً أضناه وأشقاه، وحينما تلُوحُ له بشائر البهجة، وأماراتُ الفرح؛ يأتي من يعكّر صفوهما، ومن يدُسّ في حياتهم السمّ والكرب، فيُشير علىٰ ولي أمرِها بمنعها من حِبّها، فتدخل المرأة في مداركِ البؤس، والرجل في غياهب الغَمٍ، وغياهب السجن أيضاً. فتنتهي حياتهما بفاجعةٍ؛ قصمت ظهرهما، وخلّدت اسمهما علىٰ ألسن الناس، وقلوب العُشّاق. وصاروا عِبرةً يُعتبر بها، ومثالاً يُستشهد به. فكأن كَدَر العشق سبيلاً لخلوده، ومدعاةٍ لبقاءه. فلا تُمنع السعادة عن المرء إلا بقدر ما يُعطىٰ بديلاً (الخلودُ أعني)، ولا تُصدّ التعاسة عنه إلا بموت ذكرهِ في صفحاتِ التاريخ، وأوراق الدّهر.
بعد الذي ذكرتُ، دعني أعزّك الله أُحيلك إلىٰ نوازِعِ نفسي، ولواعج قلبي. لا أقول لك إني أعشقُ.. معاذ الله، فقد قطعتُ عهداً علىٰ نفسي ألا أفعل، وألا أُشرِك في قلبي سواهُ سبحانه ﷻ، ولا أجعل معه معشوقاً غيره، فبه أحيا وبه أموت. ولكنني نعم، أحببتُ، أحببتُ مُتأخّراً، أحببتُ مرتين، وما يفرقني عن مَمُو إلا أنني في الاعتراف أجبنُ مما في غيره. نعم، أنا في الحبّ جبانٌ، لا أجسر علىٰ البوح، ولا أكشف ما في بواعث صدري، وما اختلجه قلبي من هوىٰ الحبّ، ومضاميره. غير أنّك حين تقرأ نجوىٰ مَمُو؛ وكأنّه تحدّث بلسان قلبك، ونطق بمكنونِ نفسك، فصارَ لك مُمثّلاً رسمياً لاسمك، لذاك تتأثّر معه حتىٰ لتحسبه صديقاً لك، صفيّاً رفيقاً، أو لتحسبه نفسك.
‏‎”الحبّ -أعزك الله- أوّله هزلٌ، وآخره جدٌّ. دقّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها؛ إلا بالمعاناة“، هكذا وَصف ابن حزمٍ الأندلسي رحمه الله الحبّ. تعصف به رياح الحبّ؛ وهو يحسبها نفحة من نفحات الهواء، وتميد به الأرض؛ فيُخيّل إليه أنه ترنّح من تلقاء نفسه، لا شغل للأرض في ذلك، وترىٰ من السماء هطلٌ ومطرٌ ووابل؛ وهو يقول: ندىًٰ ندىًٰ.. ‏‎”حتىٰ يقع الفاس بالراس“، ويكون أمره معه كما ‏‎”علىٰ نفسها جنَت براقش“. وهو في أول أمره هيّنٌ سهلٌ ليّن، لا يجد فيه الإنسانُ شقاوةً وضراوةً، حتىٰ يفجع به بعد حينٍ، ويسوؤه منه ما يلقىٰ، ولا يجد منه خلاصاً ولا مخرجاً، يقول شاعرنا:

الحب أول ما يكون لجاجةً
تأتي به وتسوقه الأقدارُ

وإن المرء ليبان علىٰ محيّاه أثراً من هذا العشقِ، فيعرفه القاصي والداني، والعالم والجهول، والرفيع والوضيع، والطفل والكبير. وله من سماتِ الألم والوجعِ، والحزن والجزعِ الشيء الكثير؛ فكأنّه رجلٌ أرّقتهُ الليالي، وأسقمتهُ الأنهُر، وأودت به الأسقام حتىٰ صار مَيّالاً لملازمة الفراش. وحين يُلقىٰ في مجالس القوم؛ تراه مشدوداً مهدوداً، سارحاً عن الناس إلىٰ حِبّه، زاهداً بأحاديثهِم ومسامرتهِم إلىٰ ذكرِها. وقد شَحُب وجههُ من لونه، وانطفَت عيناه من بريقها، فإن يرهُ الرائي يَحسَبه "رِجلاً في الحياة وأخرىٰ في القبر"، وفي هذا قال شاعرنا:

وإذ نظرتَ إلىٰ المحبّ عرفتهُ
وبدت عليه من الهوىٰ آثارُ

قل ما بدا لك أن تقول فربما
ساقَ البلاء إلىٰ الفتىٰ المِقدارُ

لا يقدر علىٰ إخفاءه، ولا يجد له من إبطان، فهو ظاهرٌ بغير إرادته، وبائنٌ بغير سلطانه، إن زاد تكلفاً في صدّه؛ زاد احتراراً في وجهه، وإن جهد في ردّه؛ تضرّم ناراّ في قلبه. فهو وإن بدا له أنه مُكفرٌ؛ فهو أبلجٌ، وفي هذا أيضاً يقول شاعرنا:

أُخفي الهوىٰ وهو لا يخفىٰ علىٰ أحدٍ
إنني لمستتِرٌ في غير مُستتَرِ

أحمد الله ربي، وأشكر له نعمهُ، وأُثني عليه بما أثنىٰ هو علىٰ نفسهِ؛ أني لستُ من أهل العشقِ. أعاذنا الله وإياكم منه.
وأختم بقطعٍ من الرواية أعجبتني وأذهبت بخُلدي، علّكُم تجدون فيها ما وَجدتُ:

❞- ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتها الخالة؟ وهل لكي أن تصفيها لنا، وتحدثينا عنها؟
- فنظرت اليه وقد قوي شكّها، وغلب علىٰ ظنها أنها أمام ضالتيها المنشودتين. ثم تنهدت بعمقٍ وقالت له: "أشد أنواع هذا المرض يا بني؛ نوعٌ -لا أذاقك الله إياه- يسري من الألحاظ، ويسلك طريقه في الألحظ، ثم يتخذ مستقره في القلوب. هو في أول أمره رعلةٌ في المشاعر، دقاتٌ بين ألواح الصدر، وتلوّنٌ علىٰ ملامح الوجه، فإذا نمىٰ وترعرع فهو برقٌ يَستعر وميضه في الأحشاء، تتلظىٰ الجوانح بناره من غير لهبٍ، ويشوي الفوائد في وهجه من غير جمرٍ. ثم إذا استقر وتمكّن فهو نهشٌ وفتكٌ لسويداء القلب، يجرحه بلا مبضع، وينزعه من غير سنان. فهناك يشخب دمه منهمراً من العينين، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفرات الصدر. وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره، ولا يجدي سوىٰ أن تتضامن الروح، وتتطأ النار ببرد الوصال".❝
❞ليس أجمل لنفس العليل المُدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب؛ من ساعة تفجؤه ببشارة الوصل والرضىٰ، وتحمل إليه من محبوبه؛ صوت الحنان والعطف؛ فينتفض قلبه بذلك من مرارة اليأس وآلامه. إن فيها لحناً تعجز عن أداء مثله الأوتار، وجمالاً لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور، وفيها نشوةٌ لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر.❝

❞أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره، يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألمٍ واحتراق؛ إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته؛ إلىٰ حيث تنتظرك عروسك، قم؛ فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته نعيم الوصال، قم؛ فإن شمعتك مثلك في الإنتظار تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك من نار الإصطبار. حسبك مثلي ذوبا واحتراقاً، وكفاك مثلي دموعاً وتسكاباً. إن ذلك النور الذي ضاع ورائه قلبك؛ هو ذا أمامك اليوم، فلترتم في أذياله كما تفعل الفراشة الملتاعة إذ تنثر روحها على أذيال اللهب.❝

لعمري قد أوتي أحمد الخاني من البيان حظاً عظيماً، ولا أبخَسُ للبوطي حقّه، فهو والله ضليعٌ جديرٌ بالأدب، قد نقله إلىٰ لساننا العربي بصورةٍ أصمه بها: أنه بلغ الكمالَ في الترجمة.

أحَـــبَرهـــا أبو هاشمٍ الأُمّي، كوتاهيــا، تركــيا
ضحىٰ الأربعاء، ٢ آب ٢٣م، ١٥ محرّم ٤٥ه‍

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١