رسالة ابن زيدون الساخرة الهجائية لابن عبدوس
أما بعد، أيها المُصاب بعقلهِ، المورطُ بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمىٰ عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب علىٰ الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فإن العجب أكبر، ومعرفة المرء نفسه أصوب، وإنك راسلتني مستهدياً من صلتي ما صفرت منه أيدي أمثالك، متصدياً من خلّتي ما قُرعت دونه أنوف أشكالك، مرسلاً خليلتك مرتادةً، مستعملاً عشيقتك قوادةً، كاذباً نفسك أنّك ستنزل عنها إلي، وتخلف بعدها علي
ولا شك أنها قلَتك إذ لم تضن بك، وملّتك إذ لم تغر عليك، فإنها أُعذرت في السفارة لك، وما قصّرت في النيابة عنك، زاعمةً أن المروءة لفظٌ أنت معناه، والإنسانيةُ اسم أنت جسمه وهيولاه، قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت في مراتب الجلال، واستوليت علىٰ محاسن الخلال، حتىٰ خلت أن يوسف -عليه السلام- حاسنك فغضضت منه، وأن امرةة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنّطِفَ عثر علىٰ فضل ما ركزت، وكسرىٰ حمل غاشيتك، وقيصر رعىٰ ماشيتك، والاسكندر قتل دارا في طاعتك ، وأردشير جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك، والضحّاك استدعىٰ مسالمتك، وجذيمة الأبرش تمنىٰ منادمتك، وشيرين قد نافست بوران فيك، وبلقيس غايرت الزباء عليك، وأن مالك بن نويرة إنما ردف لك، وعروة بن جعفر إنما رحل اليك، وكُليب بن ربيعة إنما حمىٰ المرعى بعزتك، وجساساً إنما قتله بأنفتك، ومهلهلاً تنما طلب ثأره بهمتك، والسموءال إنما وفىٰ عن عهدك، والأحنف إنما احتبىٰ في بُردك، وحاتماً إنما جاد بوفرك، ولقىٰ الأضياف ببشرك، وزيد بن مهلهل إنما ركب بفخذيك، والسليك ابن السلكة إنما عدا علىٰ رجليك، وعامر بن مالك إنما لاعبَ الأسنة بيديك، وقيس بن زهير إنما استعان بدهائك، وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك، وسحبان إنما تكلم بلسانك، وعمرو بن الأهتم إنما سُحِر ببيانك، وأن الصلح بين بكرٍ وتغلب تمّ برسالتك، والحمالات بين عبسٍ وذبيان أُسنِدت إلىٰ كفالتك، وأن احتيال هرم بن سنان لعلقمة وعامر حتىٰ رضيا كان عن اشارتك، وجوابه لعمر -وقد سأله عن أيهما كان ينفر- وقع عن إرادتك، وأن الحجاج تقلّد ولاية العراق بجدّك، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك، والمهلّب أوهن شوكة الازارقة بأيدك، وفرّق ذات بينهم بكيدك، وأن هُرمس أعطي بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون أورد علىٰ أرسطوطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سَوّىٰ الإسطرلاب بتدبيرك، وصوّر الكرة علىٰ تقديرك، وبُقراط علِم العِلل والأمراض بلطّ حسك، وجالينوس عرَف طبائع الحشائش بدقّة حدسك، وكلاهما قلّداك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركيب الاعضاء، واستشارك في الداء والدواء، وأنك نهجت لأبي معشرٍ طريق القضاء، وأظهرت جابِر بنَ حيّان علىٰ سر الكيمياء، وأعطيت النظّام أصلاً أدرك به الحقائق، وجعلت للكِندِي رسماً استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنقار توليدك وابتداعك، وأن عبدالحميد بن يحيىٰ بارى أقلامك، وسهل بن هارون مدوّن كلامك، وعمرو بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك للذي أقام البراهين، ووضع القوانين، وحدّ الماهية، وبيّن الكيفية والكمية، وناظر في الجوهر والعَرَض، وميّز الصحة من المرض، وفكّ المعمّىٰ، وفصّل بين الاسم والمُسمىٰ، وصرّف وقسّم، وعدل وقوّم، ووصف الاسماء والأفعال، وبوّب الظرف والحال، وبنىٰ وأعرب، ونفىٰ وتعجّب، ووصل وقطع، وثنىٰ وجمع، وأظهر وأضمر، واستفهم وأخبر، وأهمل وقيّد، وأرسلَ وأسند، وبحث ونظر، وتصفح الأديان، ورجّح بين مذهبي ماني وغيلان، وأشار بذبح الجعد، وقتل بشار بن برد، وأنك لو شأت خرقت العادات، وخالفت المعهودات، فأحلت البحار عذبةً، وأعدت السّلام رطبةً، ونقلت غداً فصار أمساً، وزدت في العناصر فكانت خمساً، وأنك المقول فيه: ”كلّ الصيد في جوف الفرا“، ”ليس علىٰ الله بمستنكرِ أن يجمع العالم في واحدٍ“
كيف رأيت لؤمك لكرمي كِفاءاً، وَضِعَتُكَ لشرفي وفاءاً، وإني جهلت أن الأشياء إنما تنجذبُ إلىٰ أشكالها، والطير إنما تقع علىٰ ألافها، وهلّا علمتَ أن الشرق والغرب لا يجتمعان، و شعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان، وقلتَ: ”الخبيثُ والطيّبُ لا يستويان“، وتمثّلت:
وذكرتَ أني عِلقٌ لا يُباع فيمن زاد، وطائرٌ لا يصيده من أراد ، وغرضٌ لا يصيبه إلا من أجاد، ما أحسبك إلا كنتَ قد تهيأت للتهنئة، وترشّحت للترفئة، ولولا أن جرح العجماء جبارٌ؛ للقيت من الكواعب ما لاقىٰ يسار،فما هم الا بدون ما هممت به ، ولا تعرض الا لأيسر ما تعرضت. أين ادعاؤكك رواية الأشعار، وتعاطيك حفظ السير والأخبار، أما ثابَ لك قول الشاعر:
وهلا عشّيت ولم تغتر، وما أشك انك تكون وافد البراجم، أو ترجع بصحبة المتلمس، أو أفعل بك ما فعله عقيل بن علفة بالجهني حين أتاه خاطباً، فدهن استه بزيتٍ، وأدناه من قرية النمل. ومتىٰ كثُر تلاقينا، واتصل ترائينا، فدعوني إليك ما دعا ابنة الخسّ إلىٰ عبدها من طول السواد، وقرب الوساد! وهل فقَدتُ الأراقم فانكح في جنبٍ، أو عَضَلَني همّام بن مرة فاقول: ”زوجٌ من عود، خير من قعود“. ولعمري لو بلغت هذا المبلغ؛ لارتفعت عن هذه الحِطّة، ولا رضيت بهذه الخطة؛ فالنار ولا العار، والمنية ولا الدنية، والحرّة تجوعُ ولا تأكل بثدييها. فكيف وفي أبناء قومي مُنكحٌ وفتيانٌ هِزّانُ الطوال الغرانقة، ما كنت لا تخطىٰ المسك إلىٰ الرماد، ولا أمتطي الثور بعد الجواد، فإنما يتيمم من لم يجد ماءاً، ويرعىٰ الهشيمَ، من عدِمَ الجميم، ويركب الصعب من لا ذلول له، ولعلك إنما غرّك من علمت صبوتي إليه، وشَهِدت مساعفتي له، من أقمار العصر، وريحان المصر، اللذين همُ الكواكب عُلُوّ هممٍ، والرياضُ طيبٌ شيم، من تلقىٰ منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري، فحن قدحٌ ليس منها، ما أنت وهم؟ وأين تقع منهم؟ وهل أنت إلا واو عمرو فيهم، وكالوشيظة في العظم بينهم!
وإن كنت إنما بلغت قعر تابوتك، وتجافيت عن بعض قوّتك، وعطّرت أردانك ، وجررت هميانك، واختلت في مشيتك، وحذفت فضول لحيتك، وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك، ورفعت خط عذارك، واستأنفت عقد إزارك، رجاء الاكتنان فيهم، وطمعاً في الاعتداد منهم، فظننت عجزاً، وأخطأت استك الحفرة. والله لو كَساك مُحرِق البردين، وحلّتك مارية بالقرطين، وقلّدك عمرو الصمصامة، وحملك الحارث علىٰ النعامة؛ ما شككت فيك، ولا سترتَ أباك، ولا كنتَ إلا ذاك.
وهبكَ ساميتهم في ذروة المجد والحسب، وجاريتهم في غاية الظرف والأدب، أليس تأوي إلىٰ بيت قعيدتهُ لكاع، إذاً كلهم عزبٌ خالي الذراع. وأين من انفرد به ممن لا أغلب إلا علىٰ الأقل الأخس منه. وكم بين من يعتمدني بالقوة الظاهرة، والشهوة الوافرة، والنفس المصروفة إلي، واللّذة الموقوفة علي، وبين آخرٍ قد نضب غديره، ونزحت بيره، وذهب نشاطه، ولم يبقىٰ إلا ضراطه! وهل يجتمع لي فيك إلا الحشف وسوء الكيلة، ويقترن علي فيك بك إلا الغُدّة والموت في بيت سلولية. تعالىٰ الله يا سلم بن عمرو، أذل الحرص أعناق الرجال ما كان أخلفك بأن تقدر بذراعك، وتربع علي ضلعك، ولا تكن براقش الدالة علىٰ أهلها، وعنز السوء المستثيرة لحتفها، فما أراك إلا سقط العشاء بك علىٰ سرحانٍ، وبك لا بظبيٍ أعفر، أعذرت أن أغنيت شيئاً، وأسمعت لو ناديت حياً.
.jpeg)
تعليقات
إرسال تعليق