نظرةٌ علىٰ رواية «آنا كارينينا» لروائينا تولستوي




قد يسوؤك من الخيانة ما يسوءُ السوُيّ، الذي طُبِع علىٰ فطرة نبذ الخيانة، وسفّ التراب بوجه فاعلها، والشفقة علىٰ من تجرع سُمّها؛ وهذا من عدل القلبِ، ورجاحة العقلِ، وسموّ النفس. إلا أنك ترىٰ روائينا قد أبىٰ أن يُمرّ هذه المعضلة علىٰ مسامعك كمَرّ السحاب، تروح وتمضي، والناس عنها في شُغلٍ ومشغلة. أَحبّ لنا أن نخوض فيها بعين المُنصف، وبعين الرويّة في إطلاق الحكم، وأن نرىٰ شعور البَغْيّ، ومشاعر المُبغىٰ عليه، علىٰ أنّك قد تظن أنه يُبرر فِعال الخائن! لا، لا تطلق أحكام المتسرّعين، تروّىٰ في حُكمك، وتمهّل في رأيك= علّك ترىٰ تعدّد سبل الفكر، وتباين وجهات النظر، فتستقيم لك معاني النفس البشرية، ويزول الغطاء المُكفهِر عن مساويهم، فتُرجّح سبب فِعالهم، وعلّة أقوالهم.
تلك مقدّمة لم أُبِن فيها بحقٍّ عما في نفسي، ولم أُفصح عن خلاجاتها لاعتلال اللسان بعد «آنا كارينينا». لا أقول أنّي تأثّرت فيها كما غيري من قوارير القلوب، وضِعاف الأرواح؛ لا، صرفاً لا، لكنّك ترىٰ تلك التحفة البائنة بريقها قد نزغت في نفسك شعوراً؛ أن هناك من الأدب الروائي؛ ما إن يَطُل حجمه زادك شوقاً، وإن قلّت صفحاته زدت طلباً. لا يملّ معها المرء، يعيش معها كل لحظةٍ، وكل دقيقةٍ، وكل ساعةٍ، وكل يومٍ وكأنه يُسامر صاحباً، ويُعاشر خليلاً. أنها باتت جُزءاً من حياته. ما إن تصبح عليه شمس بُكورهِ حتىٰ نزَعَ إليها، وبجانبه قهوته العربية المرّة، وقطعةٌ من الشكولاة يُملي فيها بطنه حتىٰ الفطور، وبالراية عقله حتىٰ المساء= كان هذا دأبه، وتلك حياته الرتيبة طِوال اسبوعين. ١٥ يوماً تنعّم فيها بصحبةِ أفذاذٍ، وألوانٍ من الشخصيات: بين الحكيم الفيلسوف (ليفين)، والمُتهوّر المُتعجّل (ستيفان)، وبين الحكيمة الرعناء لاحقاً (آنا كارينينا)، وبين المتسامح العفوّ (أليكسي كارينين)، والذي ما يُعرف له طبعٌ دائمٌ (فرونسكي)، والبريئة التي ما خبرت أحوال الدنيا علىٰ حقيقتها (كيتي)، والتي عانت ما عانت وتجمّلت برداء الصبر والجَلد (دوللي).. وهلمّ جرا
أحسبني كنت بين أناسٍ فيهم من لمسات الحياة، وصورة الواقع؛ ما تجعلك تنظرهم في عيون من تعرف في دُنياك. وفي هذه الرواية ما أغناك عن كُره الناس، إذ يتبيّن لك حقيقة أمرهم، وخبايا نفوسهم، وأنهم جُبِلوا علىٰ القصور في الخُلُقِ، وطُبِعوا علىٰ الأنا التي لا ينفع فيها تقديم الغير عليها. فتزهد نفسك في انتظار صلاح الناس، علىٰ أنّ هذا لا يردعك عن تلك المحاولة، إنما كما قالت العرب: "اليأس إحدىٰ الراحتين"، ولأن ييأس المرء من الناس، خيرٌ من يأمل فيهم ما لا يُرجىٰ تحقّقه إلا بالمصابرة والمجالدة، والنفس الطويلة.
ولا أحبّ أن أحرِق عليكم الأحداث، فلا أحب لغيري أن يفعل ذاك معي، وقد كتبتُ في رسالةٍ مطوّلة تحليلي وسردي للشخصيات إلىٰ فلانة، وبيّنت فيها ما لا يجدر بي تبيانه هاهنا. علىٰ أنّي سأسعىٰ سعيي، وأجهد جهدي في إيضاح بعض من اغتمر، وبلاغِ بعض ما عيّ. ومن هذا:
وجدتني محباً لشخصية (ليفين)، ذاك الرجل الذي تحامل علىٰ نفسه إذ رُدّ طلبه، وما خالجت مشاعر الكره والبغضِ لمن ردّه، ولا اعتصرت نفسه حزناً فانكبّ علىٰ وجهه بين الحانات ينسىٰ بها همّه، بل تفرّغ لفهم من حوله، واستشفاء أحوالهم، ومعايشة فلاحيه، وزراعة أرضه، ودراستها علّه ينفع بها وينتفع. ثم نال ما رجا، إذ وُفّق في طلبه، فكان له من جزاء الصبر الظفر، ومن الحزن الفرح. ثم إنّك تلحظه وشعوره المتقلّب يين الإيمان والكفر، وإسقاطه لتلكم المعضلة علىٰ واقعه، ثم فهمها بمقتضىٰ ما رآه، ولم يُكابر غروراً، إنما كانت الحقيقة هي مبتغاه ومنتهىٰ طلبه، فلما أراد وصالها، وصلته. وذلكم لعمري من تمام معنىٰ السعي، فإن المرء إن يطلب غايته= أدركها، وأعانه ربّه لنيلها.. فالسعي السعي.
أمّا (أليكسي)، فسأضع جانباً فكري العقدي القائم علىٰ أن ما فعله هي الدياثة بعينها. وسأقصر بأن أحكم علىٰ فعله من مقتضىٰ عقيدتهم النصرانية، القائمة علىٰ الغفران. وقد أورد روائينا، "أن المسيح -عليه السلام- جاءته امرأةً زنت، تطلب الغفران، فقال أحدهم: ارجمها يا روح الله. فردّ المسيح: فليرمها بحجر من ليس له ذنبٌ!" كلنا لنا من الذنوب ما لا يعلمها إلا الله، والإقدام علىٰ الصفح والعفو؛ فيها من مكابدة النفس وتجشّمها ما يفوق أمر الصنديد في أرض القتال، فلربما صبر علىٰ حرّ السيوف، فمن يصبر علىٰ حرّ النفوس؟
كانت (آنا) تكره في زوجها (أليكسي)؛ طيبة قلبه، وكثرة عفوه. كانت تريده أن يشدّ عليها كي تكرهه بقلبٍّ مطمأنٍّ، أمّا تلك الرحمة الزائدة كانت لها مرآة علىٰ دناءة فعلها، وذمامة صنعها. فلو أفحش لها بالقول، وأكثر بالتأنيب؛ لكان لها حُجّةٌ في تورية ما صنعت، وتبرئة نفسها. أما وقد فعل، فقد كان شعورها نحوه يتراوح بين الحب والكره، وربما غلبت الثانية الأولىٰ، لامتلاء الفؤاد بآخرٍ.. ذاك (فرونسكي). الذي لعمري قد أنهيتُ الرواية وما عرفته حقّ المعرفة، وما خبرت نفسه كما اطّلعت علىٰ غيره. أحسبه كان كومبارساً في الرواية، لا وجوده يزيد القصة حلاوةً، ولا غيابه ينقص منها. كان كحبة [الماجي] في مقلوبة اللحم! لذا الإستفاضة في الحديث عنه غير مُجدٍ. أما ما دونهم من (كيتي) و(دوللي)، فأحسبهما من براءة النفس ما يغنينا عن الإسهاب في الحديث عنهما. شأنكم أن تقرؤوا الرواية فتعرفوا خبرهما.
أما إن يسألني فلانٌ عن الفيلم: أيُغني مشاهدته عن قراءة الرواية؟ فجوابي: قطعياً لا. اقرأ الرواية، واقرأ الرواية، ثم اقرأ الرواية. ودعك من الفيلم فقد أقصر وأبخس حقّها.

مُحمّد | في ضحىٰ يوم الأربعاء
٢٤ ذي الحجة ٤٤ه‍. كوتاهيا، تركيا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١