وصايا حول الوقت
وقد شكا لي بعضكم قِصر وقته، وازدياد ملَلِه، واعتلالَ روحه، وتباريحَ نفسه. وأنه ما طفِق إلا ويُجاهد نفسه في تثقيفِها ووتزكيتِها، وهو علىٰ ذٰلك يُلاقي منها العنتَ والجُهدَ= حدّاً أضناه وأسأمه. فما السبيل مع هذا؟
لكثُر ما حدّثني أبا الحسن - والدي- بحديث عظيمنا ﷺ: ”اللهمّ بارِكْ لأُمّتي في بُكورِها“. فإن في البكور سعةُ الوقت، وبركةُ العمل. ولا يحسبن فلاناً أن الرّزقَ إنما هو في المالِ فحسب؛ بل الأمر يتعدىٰ ذلك، فيشمل الوقت، ويشمل العِلم مع العمل. فإنك لتلقىٰ نفسك في عَتماتِ الليل؛ تصير الساعة فيها نصفاً، والنصف رُبعاً، وكذا الأمر في الدقيقة واللحظة. أما في صباح المرء وبكورِهِ، فإنه بعد الفجر تُبصر وقتك يُمطّط، ويُزاد فيه، حتىٰ ليُخال لك أن الشمس جمُدت في مكانها، وما تفتأُ إلىٰ أُفقِ سمائها. وكأنّك بشمس يوشع بن نون قد ربظت بأمر ربّها سبحانه. ولطالما رأيتُني أحفظ محفوظي من كتاب الله (حتىٰ أني حفظتُ الزهراوين في تلكم الأوقات)، أو من الأشعار (فحفظي للمعلقات كان في الغالب بكوراً)، وأقرأ من صفحات متتابعاتٍ طِوال، وأكتب وأخطّ حتىٰ أراني وصلت إلىٰ آلاف الكلمات= وما تعبت يدي من الكتاب، وما تبرّمت أصابعي وَهَناً وكَلَلاً، بل ويسيحُ حبرُ قلمي دون إدراكٍ مني، ودون وعيٍّ.. وهلمّ جرا. أما في مسائي، فإني لأكتب صفحةً فأجدني كرجلٍ هرِمٍ، دنا من الثمانين، فأعياه عظمُهُ، وأضنته أعصابُهُ، فلا يحمل القلمَ إلا وسقطَ، وما أمسكَ كتاباً إلا وأُغلِق، وما فتح عينه إلا وأُغمضت. وكأنّ الليل هو حقاً كما قال ربي ﷻ: ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾.
إذاً، ففاتحة أمركَ تكون بتعجيلكَ النوم، وتبكيركَ الاستيقاظ، وشُربك الماءَ الدافئ، فصلاةُ الفجر، ثم قراءة وردٍ من مصحفك، ففنجال قهوةٍ عربيةٍ مرّةٍ مع الهيل، وكتابٍ في الأدب تستقوي به علىٰ مضانِّ الحياة.. هذا في الصباح. ثم إفطاراً يُسندك لباقي يومك، -وأنت في الصيف، وتعلم ما تعلم من طول نهار الصيف، وقصر ليله- فتعجيلك الإفطار؛ فيه زيادةٌ لنشاطك، وتقويةٌ لبدنك. وقد علمتُ أن هناك من يزهدُ بالإفطار، ويركنُ إلىٰ قهوة معها سيجارته، وعلىٰ علمنا بحرمانية الدخان، ومضارّه، إلا أنني لن أدخُلَ في جدال هذه المسألة، وسأُسلّم للمدخن بما يهوىٰ، لكن أقلّها أن تؤجّلها لبعد إفطارك، فلا أعلم كيف سيتلقىٰ فمه أول ما يصحىٰ دخاناً دون طعامٍ.. وا عجبا!
ثم يصحّ أن تشرع في هواياتك، فإن كنتَ بقراءة الأدب الروائي هاوياً، أو بالسياسة راغباً، أو بالتاريخ والهاً فأنت وشأنك وما ترىٰ. أكثر من القراءة في صباحك، ولا تفرغ حتىٰ يقدِم عليك ضحىٰ يومك، فاذهب وتوضأ، والهف إلىٰ صلاة الضحىٰ. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: ”أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بثَلَاثٍ: بصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَىٰ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ.“ فما أحسبك تعجز عن ركعتين أو أربع، وأنت أنت من الصحّةِ والعافية. ووالله تُعساً لرجلٍ خالف وصيةَ رسوله؛ وهو له محبٌّ ناصحٌ مُشفِق.
ثم لك بعدها أن تنشغلَ بما يشغلك، ولكن لا يُشغلك هذا عن صلاة الظهر، حتىٰ يأتي عليك وقتُ الغداة، فتقعُد إلىٰ طعامك، وتأكل ما شاء الله لك أن تأكل، علىٰ ألا تُسرف، وقد ورد عن أميرنا الفاروق عمر -رضي الله عنه- قوله: ”نحنُ قومٌ لا نأكل حتىٰ نجوع، وإذا قمنا لا نشبع“، واجعل في وقتِ أكلك علماً تنتفع به، كأن تشاهد مواعظاً علىٰ اليوتيوب، أو حلَقات الدروس، أو بودكاست يفيدك علماً، لا من ترهات تنمية الذات المستسقاة من الغرب، فإنها سرابٌ لا ماء فيه. واصرف نفسك قدر ما تقدِر عن طعامِ العشاء، فإنه مهلكةٌ للجسم، ومفسدةٌ للنوم. وحاذر أن تنام وما شربتَ من الماء إلىٰ قدر كوبين فقط، زد عليهما ضعفين، فإن الماء وقودٌ للعقل كما سائر الجسم.
ثم بعد صلاتي العصر والمغرب، انزع إلىٰ قراءة وِردكَ في التزكية، كمدارج السالكين، والداء والدواء ونحوها، علّها تزعُ في نفسك الروح جنباً إلىٰ جنب ذاك الجسد الذي تملؤه ليلاً نهاراً بطعامٍ وشرابٍ وغيره. فإن الإنسان عقلٌ وروح= والعاقل من أشرك روحه بعقله فكان له سعادة الدارين.
أما في مسائك، فأحبّ لك أن تُوتر، إتماماً لوصيّة عظيمنا ﷺ. وأن تُهاتف من تُحب، وتبرُق لما تُوِد، وأن تصل من ترحم. ثم قبل منامك اكتب ما دار في يومكَ من حدثٍ ومشهدٍ، ودوّن فقد تمرّ عليك أيامٌ؛ تشوق نفسك إلىٰ سالف عهدك، فخيرٌ لك أن تلقىٰ لحظات عمرك في القراطيس مُسجّلة، فالعقل يسهو وينسىٰ. ثم في آخر أمرك، اقرأ كتاباّ في السيرة، فإن في سيرة عظيمنا ﷺ ما تعين المرء في حياته؛ أتريد جَلَداً وصبراً، كرماً وإيثاراً، شجاعةً وإقداماً، حكمة وعقلاً، سياسةً ودهاءاً.. كلها فيه ﷺ، فمالك ترنو إلىٰ حكايا الخيال، وأساطير المِلَل والأقوام، ولك في سيرته ﷺ هدىٰ ونبراساً: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
لكثُر ما حدّثني أبا الحسن - والدي- بحديث عظيمنا ﷺ: ”اللهمّ بارِكْ لأُمّتي في بُكورِها“. فإن في البكور سعةُ الوقت، وبركةُ العمل. ولا يحسبن فلاناً أن الرّزقَ إنما هو في المالِ فحسب؛ بل الأمر يتعدىٰ ذلك، فيشمل الوقت، ويشمل العِلم مع العمل. فإنك لتلقىٰ نفسك في عَتماتِ الليل؛ تصير الساعة فيها نصفاً، والنصف رُبعاً، وكذا الأمر في الدقيقة واللحظة. أما في صباح المرء وبكورِهِ، فإنه بعد الفجر تُبصر وقتك يُمطّط، ويُزاد فيه، حتىٰ ليُخال لك أن الشمس جمُدت في مكانها، وما تفتأُ إلىٰ أُفقِ سمائها. وكأنّك بشمس يوشع بن نون قد ربظت بأمر ربّها سبحانه. ولطالما رأيتُني أحفظ محفوظي من كتاب الله (حتىٰ أني حفظتُ الزهراوين في تلكم الأوقات)، أو من الأشعار (فحفظي للمعلقات كان في الغالب بكوراً)، وأقرأ من صفحات متتابعاتٍ طِوال، وأكتب وأخطّ حتىٰ أراني وصلت إلىٰ آلاف الكلمات= وما تعبت يدي من الكتاب، وما تبرّمت أصابعي وَهَناً وكَلَلاً، بل ويسيحُ حبرُ قلمي دون إدراكٍ مني، ودون وعيٍّ.. وهلمّ جرا. أما في مسائي، فإني لأكتب صفحةً فأجدني كرجلٍ هرِمٍ، دنا من الثمانين، فأعياه عظمُهُ، وأضنته أعصابُهُ، فلا يحمل القلمَ إلا وسقطَ، وما أمسكَ كتاباً إلا وأُغلِق، وما فتح عينه إلا وأُغمضت. وكأنّ الليل هو حقاً كما قال ربي ﷻ: ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾.
إذاً، ففاتحة أمركَ تكون بتعجيلكَ النوم، وتبكيركَ الاستيقاظ، وشُربك الماءَ الدافئ، فصلاةُ الفجر، ثم قراءة وردٍ من مصحفك، ففنجال قهوةٍ عربيةٍ مرّةٍ مع الهيل، وكتابٍ في الأدب تستقوي به علىٰ مضانِّ الحياة.. هذا في الصباح. ثم إفطاراً يُسندك لباقي يومك، -وأنت في الصيف، وتعلم ما تعلم من طول نهار الصيف، وقصر ليله- فتعجيلك الإفطار؛ فيه زيادةٌ لنشاطك، وتقويةٌ لبدنك. وقد علمتُ أن هناك من يزهدُ بالإفطار، ويركنُ إلىٰ قهوة معها سيجارته، وعلىٰ علمنا بحرمانية الدخان، ومضارّه، إلا أنني لن أدخُلَ في جدال هذه المسألة، وسأُسلّم للمدخن بما يهوىٰ، لكن أقلّها أن تؤجّلها لبعد إفطارك، فلا أعلم كيف سيتلقىٰ فمه أول ما يصحىٰ دخاناً دون طعامٍ.. وا عجبا!
ثم يصحّ أن تشرع في هواياتك، فإن كنتَ بقراءة الأدب الروائي هاوياً، أو بالسياسة راغباً، أو بالتاريخ والهاً فأنت وشأنك وما ترىٰ. أكثر من القراءة في صباحك، ولا تفرغ حتىٰ يقدِم عليك ضحىٰ يومك، فاذهب وتوضأ، والهف إلىٰ صلاة الضحىٰ. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنه قال: ”أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بثَلَاثٍ: بصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَىٰ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ.“ فما أحسبك تعجز عن ركعتين أو أربع، وأنت أنت من الصحّةِ والعافية. ووالله تُعساً لرجلٍ خالف وصيةَ رسوله؛ وهو له محبٌّ ناصحٌ مُشفِق.
ثم لك بعدها أن تنشغلَ بما يشغلك، ولكن لا يُشغلك هذا عن صلاة الظهر، حتىٰ يأتي عليك وقتُ الغداة، فتقعُد إلىٰ طعامك، وتأكل ما شاء الله لك أن تأكل، علىٰ ألا تُسرف، وقد ورد عن أميرنا الفاروق عمر -رضي الله عنه- قوله: ”نحنُ قومٌ لا نأكل حتىٰ نجوع، وإذا قمنا لا نشبع“، واجعل في وقتِ أكلك علماً تنتفع به، كأن تشاهد مواعظاً علىٰ اليوتيوب، أو حلَقات الدروس، أو بودكاست يفيدك علماً، لا من ترهات تنمية الذات المستسقاة من الغرب، فإنها سرابٌ لا ماء فيه. واصرف نفسك قدر ما تقدِر عن طعامِ العشاء، فإنه مهلكةٌ للجسم، ومفسدةٌ للنوم. وحاذر أن تنام وما شربتَ من الماء إلىٰ قدر كوبين فقط، زد عليهما ضعفين، فإن الماء وقودٌ للعقل كما سائر الجسم.
ثم بعد صلاتي العصر والمغرب، انزع إلىٰ قراءة وِردكَ في التزكية، كمدارج السالكين، والداء والدواء ونحوها، علّها تزعُ في نفسك الروح جنباً إلىٰ جنب ذاك الجسد الذي تملؤه ليلاً نهاراً بطعامٍ وشرابٍ وغيره. فإن الإنسان عقلٌ وروح= والعاقل من أشرك روحه بعقله فكان له سعادة الدارين.
أما في مسائك، فأحبّ لك أن تُوتر، إتماماً لوصيّة عظيمنا ﷺ. وأن تُهاتف من تُحب، وتبرُق لما تُوِد، وأن تصل من ترحم. ثم قبل منامك اكتب ما دار في يومكَ من حدثٍ ومشهدٍ، ودوّن فقد تمرّ عليك أيامٌ؛ تشوق نفسك إلىٰ سالف عهدك، فخيرٌ لك أن تلقىٰ لحظات عمرك في القراطيس مُسجّلة، فالعقل يسهو وينسىٰ. ثم في آخر أمرك، اقرأ كتاباّ في السيرة، فإن في سيرة عظيمنا ﷺ ما تعين المرء في حياته؛ أتريد جَلَداً وصبراً، كرماً وإيثاراً، شجاعةً وإقداماً، حكمة وعقلاً، سياسةً ودهاءاً.. كلها فيه ﷺ، فمالك ترنو إلىٰ حكايا الخيال، وأساطير المِلَل والأقوام، ولك في سيرته ﷺ هدىٰ ونبراساً: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
هذا فحسب.
مُحمّد | في ضحىٰ الاثنين
تعليقات
إرسال تعليق