نظرةٌ علىٰ رواية «علىٰ أعتاب غرناطة» لأحمد أمين

 



        لم يكن علي أنا في هذه الحالة من النشوةِ بعد انتهائي من الاختبارات بخيرٍ وسلامةٍ أن أرهق عقلي وقلبي وروحي ونفسي بأمورٍ قد خلت، وأحداثٍ قد مضت، لن يسألنا الله عنها، ولن نُحاسب عليها. إلا أن الإنسان عدو ما يجهل، ولربما كان كما قيل: "العاقلُ من اتعضَ بغيرهِ، والشقيُّ من اتعضَ بنفسهِ.".

ولقد أردت عن أفهم.. حقاً أريد أن أفهم! لماذا أشعر أن التاريخ يدور في حلقةٍ مُفرغة؟ لماذا بتُ أرى أن ما حدث في المورسكيين: من ذلٍّ وهوانٍ، وضنك عيش، وإخفاء هُويةٍ، وإظهار غير ما يُبطن؛ غدا ظاهراً فينا رُأي العين! لربما لو أمعنا النظر، وأكحلنا البصر لبان لنا التشابه الكبير، والخصال الجليلة التي أمست عاملاً مشتركاً بيننا معاشر العرب، والمسلمين.. أو حتى الدول والممالك. هذا ما أثبته ابن خلدون؛ غير أنه وضعنا -رحمه الله- في قلب الصورة دون أن يحرك فينا المشاعر، ودون أن تهتز قلوبنا من وقع وهول ما قد جرى على أسلافنا.

لقد أراد منا صاحب المقدمةِ أن نتعضَ بمن سلف، كي نكون خيرَ خلف. وإنك ترى الناس قد ولعوا بتاريخ الأندلسِ وأهلها، وهاموا في أخبارِهم وأشعارِهم، وفنِّهم وعلمِهم، وحضارتِهم وجبروتِهم، وأنك تراهم كإرَم؛ لم يُخلق مثلها في البلادِ. ولكنهم قد ولُّوا، وقد اردت معرفة سبب ما آلوا إليه.. لمَ؟

لم آتِ هنا كي أقُصَّ عليكم قصصهم وحكاياهم، ولا كيف سقطت "غرناطة" آخر معاقل المسلمين في الأندلس؛ بل سأتجاوز ذلك.. سأخبركم أنه قبل سقوط "غرناطة" بكثير، وقبل سقوط "سرقسطة" بقرنٍ من الزمن -وهي في شمال "قرطبة" و"مدريد" وغرب "برشلونة"- مرَّ قسيس في تلك الأنحاء، فوجد عربياً يبكي، قال له: وما يبكيك؟ رد عليه: تسابقت أنا وأصدقائي في إصابة الهدف، فأخطأت واحداً! عاد القسيس إلى ملك قشتالة وقصَّ عليه القصة، وأرشده أن لا مجال لمواجهة من كان هذا علة بكائهم! ثم بعد ذلك بكثير.. جاء آخر ورأى عربياً آخر يبكي، فقال: وما يبكيك؟ أجاب: تركتني حبيبتي! ثم حدث ما حدث. أفهمتم السبب؟

بعدما سقطت "غرناطة" إثر قيام آخر حُكِّام بني الأحمر أبي عبد الله الصغير بتسليم مفاتيح المدينة إلى إيزابيلا وفيرناند ملكا قشتالة وأراجون، على شرط حماية وحفظ حقوق أهلها، وراعيتهم بما يكفل حريتهم الدينية. ألا أنه وكعادة عُبَّاد الصليب: أخلفوا الوعد. وشرعوا بالتنكيل "بالمورسكيين" وهو لقبٌ أُطلِقَ على آخر عرب الأندلس. وأجبروهم على إحدى الأمرَّين: ترك البلاد مع دفع مبلغٍ ماليٍّ وتسليم أطفالهم ممن يقل عمرهم عن 8 سنوات، أو التنصُّر، وتغيير الاسم، وعدم التحدث باللغة العربية.. إلخ. وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان! ثار أهل "غرناطة" على حكم القشاتلة الصليبيين، فحدث واحدة من أعظم الثورات في التاريخ: "ثورة البشرات" الخالدة. أيام كانت المعركة بين إمبراطورية إسبانيا العظمى التي تحكم أجزاء كبيرة من الأمريكيتين، وأجزاء من شمال إفريقيا، وبين قلة من الضعفاء الغير مسلحين تسليحاً حديثاً، ولا يتجاوز أعدادهم عن 10 آلاف رجل! قاد ملكهم محمدُ بن أُمية -رحمه الله-، سليل خُلفاء بني أُمية بجهاد الصليبيين، حتى حدث ما حدث.

وإن لا أريدُ أن أحرق الأحداث على من لم يقرأ عنها.. وبالرغم من عسر هذا القصة على قلب المرءِ؛ إلا أن الحقيقة مُرَّة، والتاريخ عبرة؛ فلنتعض..




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

اليوم الثّالث: أصعب قرار اتّخذتُه

اليوم السّادس: الخطأ الذي لن أعاوده