تركيا: ماذا بعد الانتخابات؟

 



انتهت الانتخابات في تركيا، وعاد الناس إلىٰ مقاعدهم ومجالسهم، والكبار إلىٰ أعمالهم والصغار إلىٰ مدارسهم. وتفرّقت جموع المحتفلين بفوز رئيس حزب العدالة والتنمية، زعيم تحالف الجمهور رجب طيب أردوغان. وذلك بانتصاره في الجولة الثانية علىٰ مرشح تحالف الأمة ورئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليشدار أوغلو بنسبة ٥٢,٢٪ إلىٰ ٤٧,٨٪ لخصمه. وبذلك ضمن تحالف الجمهور كرسي الرئاسة وأغلبية البرلمان. فلا تظهر عقبات أمام القرارت التي سيُصدرها الحزب في قابل الأيام.

وقد خاب من حسب أن معترك السياسة انتهىٰ لهذا الحد، فبعد الآن تتجه الأنظار، وتُشدّ الأذهان، وتُكشّر الأنياب استعداداً لانتخابات البلدية، والتي ستكون في العام القادم. فكما معلوم أن حزب الشعب الجمهوري المعارض قد استولىٰ علىٰ كُبرىٰ البلديات الثلاث في البلد: العاصمة أنقرة، واسطنبول، وإزمير. وذلك في انتخابات البلدية ٢٠١٩م، التي أحدثت صدمة مدوّية، إذ خرجت بلديتي اسطنبول وأنقرة من أيدي حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد زهاء ٢٠ عاماً. ذاك الذي دعىٰ الحزب إلىٰ لملمة أوراقه، وإعادة صياغته لخططه تداركاً للوضع الذي مُرّ به. وقد بان أن سنام نوائب تلك المرحلة هي إهمال قطاع الشباب، والإبقاء علىٰ الوجوه القديمة، التي وإن كانت ذا مكانةٍ ومنزلةٍ سياسية عظمىٰ إلا أن إدارة البلديات ليست كما الوزارات والحياة النيابية؛ إذ تحتاج من الجد والنشاط ما لا يؤتي في غيرها. هذا من جانبٍ، أما من آخر؛ فإن نجاح العدالة والتنمية في معركة الانتخابات تلك لا يعني نجاحهم بالكلية. وكذا فخسارة الشعب الجمهوري الانتخابات لا يعني خسارتهم الحرب علىٰ الجملة. نعم، انتصر رجب طيب أردوغان، وربما كان هذا آخر انتصارٍ له، إذ لا يقدر علىٰ الترشح مرةً ثالثة، فالدستور يسمح لمرتين فحسب. ونعم، خسر كيلشدار أوغلو، ولا أحسبه أن يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة ٢٠٢٨م، فكيف لرجلٍ قضىٰ عقده السادس والسابع من خسارةٍ إلىٰ خسارة، وهزيمةٍ تتلو هزيمة، حتىٰ مني بـ١٢ نكسةٍ؛ أن يقدر علىٰ الفوز حين يبلغ ٧٩ من عمره!

فاز الرجل، وخسر الآخر.

غير أن رجب ليس وحده الفائز، فلنا كثرٌ من رجالات السياسة التركية قد مهّدوا لأنفسهم طريقاً إلىٰ سُلّم المجد بعد هذه المعركة الضارية. بدايةً مع أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية اسطنبول الكبرىٰ، والذي بات هدفه واضحاً: اعتلاء منصب رئاسة حزب الشعب الجمهوري خلفاً لكمال كليشدار أوغلو، فقد ارتأىٰ لنفسه السير علىٰ درب رجب طيب أردوغان: رئاسة بلدية اسطنبول فمن ثَم رئاسة الحكومة. فأكرم وإن قد خسر منصب نائب رئيس الجمهورية، فقد ربح سلطة الحزب خلال العامين القادمين. وهناك أيضاً أوميت أوزداغ، الذي بإعلانه مساندة مرشح تحالف الأمة المعارض؛ فإنه قد أصبح يُقدّم نفسه علىٰ أنه معارضٌ وطني، سعىٰ لخدمة وطنه قدر المستطاع في الجولة الأولىٰ بدعم مرشحٍ ثالث (سنان أوغان مرشح تحالف الأجداد)، ثم اختار التوحد مع المعارضة وتغييب بعض مصالحه، مقابل تغليب مصالح البلد عليها. هذا ما يؤهله في الفترة القادمة أن يستميل بعض ناخبي الحزب الجيد، إذ أن تدهور قرارات رئيس الحزب الجيد ميرال أكشنار (وهي أبرز الخاسرين)، وترددها بين الانسحاب من الطاولة السداسية وعودتها مرةً أخرىٰ دفع الكثير من أعضاء الحزب إلىٰ إعادة النظر في أهليتها القيادية للحزب الدي يمثل أحد الوجوه القومية. وفي الجهة المقابلة للقوميين، فإن أعضاء الطاولة المحافظين: أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل، وعلي بابا جان رئيس حزب الديموقراطية والتقدم، وتمال كارامولا أوغلو رئيس حزب السعادة قد وطّدوا لأنفسهم في البرلمان، وهم الذي لم يأملوا أن يصلوا العتبة الانتخابية، ولكن بفضل دعم الشعب الجمهوري تمكنوا بذلك؛ حتىٰ اتُّهِموا من قبل أنصار الشعب الجمهوري أنهم استغلوا أصوات الحزب دون تقديم مقابل لذلك. ويعنون بالمقابل أي: جلب أصوات من ناخبي حزب العدالة والتنمية. فصار للمستقبل ١٠ مقاعد، وللديموقراطية ١٤ مقعد، وللسعادة ١٠ مقاعد.

هذا من جانب تحالف الأمة المعارض، أما من جانب تحالف الشعب، فهناك أيضاً القومي الآخر، مرشح تحالف الأجداد السابق سنان أوغان، الذي بدّىٰ مساندة رجب طيب أردوغان عن كمال كليشدار أوغلو، فبذلك أعلن بوضوح أنه قوميٌّ إلىٰ الحدّ الذي نأىٰ بنفسه عن الوقوف بجانب حزب الشعوب الديموقراطي الذي يُتّهم بأنه الذراع السياسي لحزب العمال. وأحسبه يوطّئ لنفسه قدماً للعودة لصفوف حزب الحركة القومية الذي يتزعمه دولت بهجلي، والذي كان سنان قد طُرِد منه قبل ذاك مرتين إثر خلافه في الأولىٰ مع قيادة الحزب لاستبعاده عن قائمة المرشحين البرلمانيين سنة ٢٠١٥م، والثانية بشأن التعديل الدستوري الذي يقضي بالإنتقال إلىٰ النظام الجمهوري بديلاً عن البرلماني سنة ٢٠١٧م. ومن المعروف أن سنان أوغان يمثل التيار الأوراسي، والذي يراه مولود تشاويش أوغلو وزير الخارجية، وأيضاً دولت بهجلي. وهذا التيار يدعو إلىٰ التقارب مع دول آسيا الوسطىٰ (العالم التركي) وروسيا. فعبّد سنان لنفسه أملاً أن يتزعّم مستقبلاً رئاسة الحزب القومي خلفاً لدولت بهجلي. كذلك من الرابحين في هذه الانتخابات فاتح أربكان رئيس حزب الرفاه الجديد، الذي أرسىٰ لنفسه سمعة تزعم حركة الرؤية الوطنية Milli Görüş، بعد الموقف المخيب الذي صدر من حزب السعادة المحافظ، والذي تفرّع عن حزب الفضيلة الذي أسّسه نجم الدين أربكان من قبل. وقد كان فاتح أربكان قد ضمن لنفسه خمسة مقاعد في البرلمان، بوقوفه بصف تحالف الجمهور. كان هذا بعد أن حاول الترشّح لرئاسة الجمهورية لكن بدون جدوىٰ لعجزه أنذاك عن جمع ١٠٠ ألف توقيع (قانون الترشح الإلزامي). ومن المحسوبين علىٰ المحافظين: حزب هدىٰ بار، الذي يرأسه زكريا يابجي أوغلو، ويأمل هذا الحزب الذي تعرّض لوابلٍ من الاتهامات المغرضة من قبل أذرع المعارضة بعلاقته مع حزب الله المدعوم من إيران، وهو ما رفضه مرارٍ وتكراراً. ويؤمّل الحزب أن يستقطب ناخبي حزب الشعوب الديموقراطي (اليسار الأخضر)، كذلك الحاضنة الشعبية الكردية المتردّدة؛ وهذا بصفته حزباً كردياً من جهة، ومحافظاً من جهةٍ أخرىٰ.

ذاك من ناحية بيان ما أسفرت عنه الانتخابات. أما من ناحية إظهار التوجه الجديد لحزب العدالة، فغالب الظنّ أن الرئيس سيسعىٰ لاستبدال وجوه حكومته بأكملهم عدا بعض الشخصيات مثل: المتحدّث باسم الرئاسة ابراهيم كولن، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ووزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو، ووزير الداخلية سليمان صويلو. وأرىٰ أن نعمان قورتولموش سيكون له دورٌ في الحكومة الجديدة. كذلك يسعىٰ الحزب لدعوة محمد شيشمك الذي له ارتباطات جيدة في الداخل والخارج لاسهاماته الاقتصادية التي أتت أُكلها، وأفرزت نفعاً وفائدة لتولي الحقيبة الاقتصادية، وأيضاً تانسو تيشلر رئيسة الوزراء السابقة لتولي أعمال وزارة الخارجية ربما لما تملكه من حضور فعال علىٰ الملفات الخارجية. وأرىٰ أن سياسة تصفير المشكلات التي انتهجتها الحكومة قبيل الانتخابات من تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، وحتىٰ الاجتماعات الرباعية مع النظام السوري بحضور وزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات (الميت)؛ لن تكون بنفس اقدر الذي وضعه داوود أوغلو في فترته السابقة مع حزب العدالة والتنمية، إذ ما زالت هناك ملفات شائكة مع النظام السوري تتعلق بملف اللاجئين ومكافحة الإرهاب. أما بالنسبة لدول الخليج فبعد إيداع السعودية مبلغ ٥ مليار دولار، كذلك استثمارات دولة الإمارات فقد أبان عن حلحلة لأمور المنطقة، والذي اُثبِت بما أحرزته المملكة من تصفير للمشكلات مع دول الجوار. وأخيراً يتبقىٰ أيضاً أمام الحكومة الجديدة ملف انضمام السويد للناتو، والذي تعرض لشدٍّ وجذب بسبب سياسة مملكة السويد في دعم حزب العمال، والسماح لأعضائه بالتراجد علىٰ أراضيه.

أما عن تفاصيلٍ أكثر ففي قادم الأيام إن شاء الله. هذا فحسب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١