نظرةٌ علىٰ كتاب «النظرات» لبليغنا المنفلوطي



لا أدري سرّ ذاك الولع الشديد بالنظرات، ولا ذاكم الوله، وأحسب أن فيه من السحر ما يجبُلُ الناس علىٰ أن تميل إليه. ميل الإكراه والتعدي مع محبة ذلك الإكراه. ميلٌ ترىٰ النفس فيه أن تقذف إلىٰ الهاوية ما يصدها عنه شيئاً، ولا يثنيها عن قربه قيد أُنملة. وهو سحرٌ لا يحتمل حقيقة سحر البيان والبلاغة فحسب، ولا سحر الوصف الذي يغنينا عن الصورة بعينها وذاتها؛ بل سحرٌ ظغىٰ وتجبّر، ومَلَكَ علىٰ الروح حِسّها، وعلىٰ النفس رَجْسها ووجْسها أن تفارقه، وأن يُنزع منها نزع الظفر عن اللحم، والوتين عن الجسد. لا أدري كيف أصِفُ شيئاً عجزتُ -وإن قضيت الدهر- أن آتي بمثل نصٍّ منه ناهيك عنه جملةً، ولا يقولنّ أحدكم: لا تبالغ. وإني والله أعلم بنفسي من نفسي، "وأهل مكّة أدرىٰ بشعابها"، "ورحم الله امرئٍ عرف قدرَ نفسه".

وما أراني أشبّهه إلا بقصة الحبيب لحبِّه، فهو يلاقي منه الصُّدود فيزداد هُياماً، ويُنفّره فيزاد قُرباً، وكلما اشتد به لان له، وإذ يصطرخ عليه هجع هجوع الطفل بعد نحيبه ونشيجه علىٰ صدر أمه. وذاكمُ وهذا سيان المعنىٰ عندي، كلما تاقت نفسي إليه أحسست بصدّه عني، وهو بالقرب مني بقرب حبل الوريد. ولقد طفت شيئاً من البلاد، وسعيت غداةً ورواحاً إلىٰ المدن والبلدات، وكنتُ فيها اصطحب معي مصحفي؛ دمشقٍ وقطر، وأما الآن فلا أطوف الديار إلا والنظرات معهما يرافقني، لا أنفكُّ عنه، ولا هو عنّي.

❞كتبها أبو هاشمٍ مُحمّد الأمي، في ضحىٰ السابع من أيّار، شوال ١٤٤٤ه‍. وقد أنعشه نسيم الهواء، وأطربته زقزقة العصافير.❝

ذاكم النص الذي تقرأونه، قد كتبته منذ عهد قريب، منذ مطلع شهر أيار كما رأيتم. وأجدني حين أزمعت أن أرفعه هاهنا في مدونتي المكتبة المُضريّة أردت أن أضيف إلىٰ ما كتبت شيئاً يسيراً، لعلني حسبت أني بذلك أجمّل النص وأحسّنه، وإنك لترىٰ الذهب رونقٌ بذاته، لكنك تحتاج معه إلىٰ رسم شكلٍ يعين الجمال جمالاً، والأبهة أبهةً. غير أني توقفت لأقرأه مليّاً، وأعدتُ قراءته تارةً أخرىٰ، ثم طوراً آخر، وأعدت قراءته أكثر فأكثر= فرأيته قد أجاد بما في خلجات صدري، وما أكمنته من حبٍّ لهذا الكتاب أوضعته في سويداء قلبي! فرأيتني أبخس حقّ تلك الهُنيهة التي كتبت فيها نص ذاك علىٰ العفوية التي لم تحتمل المراءاة، ولا تبصر معها لوناً من التحذلق إن أنا زدتُ عليها زيادة طفيفةً فكيف بالكثير. وهذا يرحمكم الله توضيحاً كما في ‏‎”علىٰ رسلكم إنها صفيّة“.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١