سوريا؛ بين فكّيّ الحرب والسلم.

 


لماذا يظن البعض أن بعودة النظام إلىٰ الجامعة العربية سيحسّن هذا من موضع سوريا، وينهي تبعات الحرب التي دامت 12 عاماً؟ هل حسبوا أن الجامعة العربية هي الاتحاد الأوروبي؟ وأن بمجرد دخول دولةٍ ما فيه يعني قيامها من الإفلاس وعودة النهضة إليها! ما الأمر بذلك حقيق.

لبنان عضو في الجامعة العربية، ولا ترىٰ العملة اللبنانية التي مقابل كل دولار ١٥ ألف ليرة لبنانية إلا في وضعٍ مزرٍ متهالك يفوق نظيره في سوريا. والعراق، وهي الدولة النفطية، صاحب رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد فنزويلا والمملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية برقم يقدّر بـ١٤٥ مليار برميل، وعملتها لكل دولار ١٣٥٠ دينار عراقي. كذا الأمر في ليبيا، التي باتت تحت ظِل حكومتين، حكومة الشرق في برقة، والتي يترأسها باشاغا ويُسيطر عليه خليفة حفتر، وتدعمها روسيا ومصر والسعودية والإمارات وفرنسا، وحكومة في الغرب معترف بها أممياً تحت قيادة عبد الحميد دبيبة، وتدعمها قطر وتركيا وإيطاليا. ومازالت في حرب متواصلة منذ ٢٠١٤م دون أي حل يجدي نفعاً، ولا أي تدخّلٍ ناجحٍ من الجامعة العربية. وفي جوارها، نرىٰ السودان، التي يُخاض فيها حرب شوارعٍ بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتّاح البُرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المشهور بلقب (حميدتي). فهل استطاعت الجامعة العربية حلحلة أمور تلكم الدول علىٰ سواء؟ وهل قامت أساساً بخطوات ملموسة لذلك؟ الجواب رأيتموه عياناً، وليس الخبر كالعيان. إذاً قد علمنا ألا فائدة من دخول ذاك الصرح المهجور من القرارت الحاسمة والمصيرية، وربما كان آخر قرار فعليٍّ مؤثر اتُّخِذ في حرب الخليج الأولىٰ، وما بعدها كان رمزيّاً لا أكثر.

أما سبب تطبيع المملكة العربية السعودية، فقد بان للجميع ميل السعودية لحلحلة كافة المشاكل التي تُحيط بها من كل حدبٍ وصوب، واعتزام سياسية تصفير المشاكل، لكي تتفرغ للملفات الاقتصادية المزمع خوضها، من مثل: مشاريع نيوم وذا لاين، ومشروع الدرعية، ومشاريع الرياض وجدة.. الخ. ناهيك عن اقتراب كأس آسيا ٢٠٢٧م التي أعلنت المملكة استضافتها، كذلك تقديم ملف ترشحها سويّةً مع مصر واليونان لاستضافة نهائيات كأس العالم ٢٠٣٠م، وأيضاً ملف استضافة معرض إكسبو ٢٠٣٠م، وهذا كله تمهيد لرؤية ٢٠٣٠م التي أعلن عنها ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء محمد بن سلمان آل سعود. هذا من الجانب الاقتصادي، أما من الجانب السياسي، فقد رأت حكومة المملكة أن حكومات الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبة منذ بدء الثورة السورية قد انتهجت مبدء إبقاء الأمور علىٰ ما هي عليه، دون تقديم حلول تنهي الحرب، بل محاولة إطالة أمد الحرب أكثر فأكثر، ما أسفر ذلك عن انتشار الجماعات الشيعية المتطرفة علىٰ حدود الهلال الشيعي (إيران، العراق، سوريا، لبنان)، وامتداد ذلك جنوباً في اليمن التي يُسيطر فيها الحوثي علىٰ العاصمة صنعاء. مما جعل تلكم المناطق مرتعاً لتجارة المخدرات، بل وملء المنطقة بها، حتىٰ غدا أي منتج يدخل بلاد الخليج في موضع شبهةٍ أن يحوي داخله مادة الكبتاغون.

أضف إلىٰ ذلك اشتداد الحرب الباردة بين إسرائيل وإيران، وكثرة القصف الذي تتعرض له ثكنات وقواعد الميليشيات الشيعية من قبل إسرائيل تجعل المنطقة علىٰ شفير الهاوية، مهددةً مصالح السعودية ومكتسباتها الاقتصادية التي وضعت لها خارطة الطريق. فتصفير المشاكل مع إيران وتوابعها، وقبل ذلك مع تركيا، ومن ثم تطبيعها مع إسرائيل -كما أرىٰ ذلك قريباً- يجعل المملكة تتجه إلىٰ سياسة الحياد التي تنتهجها عمان علىٰ سبيل المثال. وأيضاً رغبة الأمير السعودي بظهوره علىٰ الساحة أقوىٰ زعيم عربي، ومزاحمته تأثير محمد بن زايد علىٰ دول المنطقة، وهذا يُفسّر جلياً سبب غياب بن زايد عن اجتماع الجامعة. وربما قيام السعودية بتطبيع العلاقات مع حكومة النظام الآن في قمة جدة، وعدم قبول وساطة الجزائر في الاجتماع السابق للجامعة العربية في الجزائر يُوضح هذا السبب.

أما الإمارات، فهي ومنذ بدء ثورات الربيع العربي أعلنت وقوفها ضد الجماعات الإسلامية بمخالف تياراتها؛ إخوان وسلفية. فلا عجب مثلاً أن ترىٰ تطبيعها قبل ذلك مع النظام، وكذلك بعدها مع إسرائيل، وقبل ذلك العلاقات الاقتصادية المتينة والقوية مع إيران ووجود قرابة مليون إيراني في الأراضي الإماراتية. كذلك استغلالها للحرب الروسية-الأوكرانية، وسماحها للشركات الروسية تأمين تجارتها المالية عبر دبي وأبو ظبي تفادياً للعقوبات الأمريكية علىٰ الشركات والمؤسسات الروسية. والأمر سيّانه مع إيران.

أما مصر، فقد باتت بعد هبوط الجنيه إلىٰ أدنىٰ مستوىٰ، وارتفاع التضخم إلىٰ درجات عالية، ومع امتناع دول الخليج عن زيادة الاستثمار فيها؛ لتزايد حدة الفساد في مؤسسات الدولة، وأيضاً ضغوطات البنك الدولي عليها حتىٰ تسدد القروض؛ مما دفعها لبيع أصول شركات الدولة، والبنية التحتية لها. كل هذا يدفعها لمحاولة استمالة الغرب عن طريق الإعلان عن الحوار الوطني ولو أنه شكلياً إذ أن أكبر جماعة معارضة للنظام في القاهرة هم الأخوان المسلمون لم يُدعوا إليه، إلا أن الغرب قد يرىٰ ذلك مسعىًٰ من النظام لتحسين العجلة الاقتصادية والسياسية فتعود القروض إليها. وأيضاً فإن إعلان مصر أن الحل في سوريا يجب أن يكون وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم ٢٢٥٤ بالإنتقال السياسي، وعودة اللاجئين، وتفكيك الميليشيات؛ يُظهر تباين الآراء الخليجية المصرية حول الحل في سوريا.

أما الروس، وهم الضاغطين علىٰ حكومة النظام في دمشق، يأملون بتصفير مشاكل المنطقة كي يتفرغوا لحل المسألة الأوكرانية من جذورها، فلا يتبقّىٰ بعدئذٍ قوات كثر للروس في سوريا. وهذا ما يجعلهم يستعجلون مفاوضات أنقرة-دمشق. والذي من الواضح يرون فيه عنتاً لشروط تركيا الكثيرة، منها محاربة التنظيمات الإرهابية وعلىٰ رأسها حزب العمال PKK وتوابعه، وكذلك تأمين عودة اللاجئين دون تعرضهم لتعسف أمني من قبل النظام، وتأمين الحل السياسي وفقاً للقرار الأممي رقم ٢٢٥٤. وهذا ما لا يقبله النظام بأي حالٍ من الأحوال حتىٰ تخرج جميع القوات التركية من سوريا.

أما إيران وهي من أكبر المستفيدين بذلك، إذ تستطيع الآن لملمة أوراقها خارجياً، باستعادة قواها، وترتيب أوضاع ميليشياتها، وبناء قواعد أكثر فأكثر. وداخلياً بتفكيك قوىٰ المعارضة الإيرانية التي أشعلت الثورة بعد حادثة مهسا أميني. 

والخلاصة بعد إظهار آخر البيانات علىٰ الأرض، فمما حكوه لنا أرباب علم الاجتماع في كتبهم وآثارهم أن الدولة التي تخرج من حربٍ وقد هزمت عدوها لا يعني أنها منتصرة، فالحرب لا يوجد منتصر بها أبداً. وربما تعتاش الدولة بوجود الحرب علىٰ انتشار تجارة السلاح والمخدرات والبشر، ولكن ما إن يُنادىٰ بالسلم ويحلّ محل الحرب؛ حتىٰ تتداعىٰ أركانها، ولا يعد لها موردٌ اقتصاديٌ تعتاش عليه، فتنهار ببطءٍ، كمفعول السم.

هذا فحسب.

تعليقات

  1. أراك غالباً ما تستخدم جملاً بيانية خالية من أسلوبك المعتاد في مقالاتك السياسية. ولست أفهم السبب فأنت لست كاتباً صحافياً مثلاً لتحصر جملك في حدودٍ معينة أنت محمّد وهذه مدونتك.
    ( ليس نقداً فلست أهلاً لنقدك لكنه مجرد رأي قارئة لمقالاتك ومعجبة بأسلوب قلمك.)

    _طَيبةُ المحمد

    ردحذف
  2. شكر لكِ الله رأيك وإبداء نصحكِ، إني وإن كنتُ أكتب علىٰ سجيتي كما لاحظ من لحِظَ ذلك في كثيرٍ من مقالاتي علىٰ المدونة أو في تويتر والانستغرام= فإن الناس قد عذلوني بذلك عذل الناصح المحب، لأسباب حسبوها تكلُّفاً وتنمقاً، ومنهم من قال أن فيها تعمقاً زاد عن الحد فطغىٰ. ومازلت علىٰ أسلوبي ذاك أبداً، لا أحيد عنه إن شاء الله، وإنما أحصر أسلوبي: في الأدب، والروايات، والقصص، وفسلفة الأخلاق، والماجريات. أما في التحليل السياسي والاجتماعي فأسعىٰ سعيي، وأجهد جهدي، وأقارب قدر ما أقدر في تسهيل الكلام، وتبسيط الحديث قدر المستطاع؛ إذ أن هذا الموضع -السياسة- ليس موضع الأدب. والله من وراء القصد

    - مُحمّد

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١