تركيا وصندوقها: بين التحليل والتوقع.

 



كان قد سألني ذو معزّة عندي غداة يوم الانتخابات عن توقعي للفائز في انتخابات رئاسة الجمهورية التركية؟ وهل رجب طيب أردوغان ذو حظٍ أوفر من غيره. وكان قولي كالآتي: ليس من واجبي أنا طالب السياسة والعلاقات الدولية أن أتوقع الفائز من الخاسر، وأخمن من حظّهُ أوفر من الآخر؛ فهذه ليست مباراة كرة قدمٍ، تخضع لتوقعاتٍ شتىٰ وتخميناتٍ جمّة، فكرة القدم تُقاس بالتحليلات، واستقراء قوىٰ اللاعبين، ومهاراتهم، وقدراتهم الخاصة؛ فحينئذٍ نستخلص الصورة الأمثل عن نتيجتها، ومآل أمرها. أمّا هاهنا فالأمر بينه وبين ذاك فرقٌ كبير، وبونٌ شاسع، فكيف نقدر علىٰ تحليل قوىٰ المرشحيم من عدمها، إذ أن الأمر لا يكفي فيه التفوق والمقدرة علىٰ الإدارة السياسية والاقتصادية فحسب، بل يبلغ الأمر إلىٰ معرفة خبايا نفوس الناخبين، وتوجهاتهم وقناعتهم الشخصية التي لا تستند علىٰ معقولٍ ومنطق بل علىٰ مشاعر وعواطف وليدة اللحظة، وأن تقرأ أفعالهم واحداً تلو الآخر، وأن تمحص آراءهم، وتفحص أقوالهم، ولربما لم يكفٍ ذاك، فالسياسة متقلبةٌ متذبذبة، يُمسي الرجل في الحياة علىٰ رأيٍ، ويصحو علىٰ آخر، وكما قال سليمان ديميرال رئيس الجمهورية التركي التاسع من ١٩٩٣-٢٠٠٠م: "٢٤ ساعة في السياسة طويلة جداً"، وأزيد عليه بقولي: "ساعةٌ واحدةٌ في السياسة طويلةٌ جداً".

ولنا في خبر انسحاب محرم إنجه رئيس حزب البلد MP، من الانتخابات، بعد انتشار صور اتّضح فيما بعد أنها مفبركة بهدف النيل من سمعته، وتصريحه أنه لن يجعل لهم حجةً عليه حين يُهزموا أما رجب طيب أردوغان. وهو بذاته المرشح الرئاسي المنافس السابق في انتخابات الرئاسة سنة ٢٠١٨ عن حزب الشعب الجمهوري CHP. فلك أن ترىٰ تقلّبات السياسة. ومثل ذاك حين تقدم فاتح أربكان رئيس حزب الرخاء الجديد YRP لجمع ١٠٠ ألاف توقيع تخوله لدخول عتبة الانتخابات الرئاسية، قبل أن ينسحب منها، ويعلن تأييده للمرشح الرئاسي عن حزب العدال والتنمية AKP رجب طيب أردوغان، ما أمكنه ذلك لاحقاً من حصد نسبة ٣٪ من انتخابات البرلمان تحت مظلّة تحالف الجمهور Cumhur ittifakı، فعادت بذلك حركة الرؤية الوطنية Milli Görüş لأول مرة إلىٰ البرلمان التركي بعد قرابة ٢١ عاماً من الحرمان! فكيف بعد كلّ ذلك يُطلب التوقع؟

أما التحليل، فإن تحالف الجمهور Cumhur ittifakı بقيادة أردوغان جمع تحت مظلته أحزاب متباينة الفكر نسبياً، ولكن ليست بعيدة الهدف والغاية، فمنها: الدعوة الحرّة Hüda-Par partisi وهو حزب كردي إسلامي بزعامة زكريا يابجي أوغلو، اتّهم -أي الحزب- بارتباطه بحزب الله التركي الذي أُسِس برعاية إيران، وحصلت بينه وبين حزب العمال الكردستاني مناوشات كبرىٰ، ثم مع الجيش التركي إلىٰ أن فُكِّك، مع أن الحزب يرفض هذه الاتهامات، وأنه لا يدعوا إلىٰ العنف، ولم تكن له أيّةُ ارتباطاتٍ مع إيران أو حزب الله. وهذا الحزب كان له من الفائدة الكبرىٰ للحزب الحاكم، فهو بكونه كردي استطاع أن يؤمن الصناديق في مناطق ذات الكثافة الكردية من تسلّط أتباع حزب الشعوب الديموقراطي HDP الذي له ارتباطات واضحة مع حزب العمال الكردستاني PKK، والذي كان كثيراً ما يُكيل التهديدات لمن ينتخب مرشحي تحالف الجمهور Cumhur ittifakı، فغدا للحزب حاضنة في تلكم المناطق، بعد أن كانت السيطرة تامةً للحزب الآخر. كذلك هناك حزب الرخاء الجديد YRP بزعامة فاتح أربكان نجل نجم الدين أربكان -رحمه الله- مؤسس الرؤية الوطنية Milli Görüş: وهو حزب محافظ، كان بينه وبين الحزب الحاكم خلافات عِدّة حتىٰ نوقِشت فيما بينهم وحُلّت. أضف إليهم حزب الحركة القومية MHP، بزعامة دولت باهجلي، وهو كذلك كان حزباً معارضاً وبشدة حتىٰ اتفقا، وهو حزبٌ قوميٌ محافظٌ نسبياً مقارنةً بعضو تحالف الأمة Millet ittifakı الحزب الجيد İP، وقد استطاع حصد ١٠,١٪ في البرلمان.

أمّا علىٰ في الجانب الآخر، وعلىٰ نقيض، ضم تحالف الأمة Millet ittifakı المعارض أحزاب متناقضة الفكر والرأي، ولا تجمعهم أي غاية -عدا إسقاط الحزب الحاكم-: فمنها القومي التركي أعني الحزب الجيد İP، ومنها القومي الكردي أعني حزب الشعوب الديموقراطي HDP، ومنها الإسلامي وهو حزب السعادة SP، ومنها المحافظ مثل حزب الديموقراطية والتقدم DEVAP وكذلك حزب المستقبل GP. ومن الواضح أن اجتماعهم علىٰ الطاولة السادسي (ماعدا حزب الشعوب الديموقراطي HDP)، أثمر عن ازدياد الاختلاف بينهم لتباين الآراء، وهذا ما أدىٰ إلىٰ انسحاب ميرال أكشنار رئيسة الحزب الجيد İP وعودتها لاحقاً تحت ضغوطٍ شتىٰ. وحسبك من هذا فشلاً.

بعد كل ما ذكرت، هل يحتاج الأمر إلىٰ توقع؟

أما الذي جعل تحالف الأمة Millet İttifakı يحصد هذا الكم من الأصوات في الانتخابات الرئاسية هو أن نسبة كبيرة من الشباب ما شهدوا علىٰ ماضي تركيا قبل حزب العدالة والتنمية AKP، ومع كثرة الوعود الكاذبة التي أطلقها المرشح الرئاسي المعارض كمال كليشدار أوغلو؛ أدىٰ ذلك لتصويتهم لصالح تحالف الأمة، ولرغبته في التغيير علىٰ حدّ زعمهم دون أن يأبهوا للنتائج المترتبة علىٰ ذلك الاختيار. ثم إن الانتخابات البرلمانية قد شهدت اكتساحاً عظيماً لتحالف الجمهور بقيادة أردوغان، وهذا دلالة خيرٍ لاحتمالية نجاحه الرئاسي في الجولة الثانية المقررة في الثامن والعشرين من هذا الشهر أيّار.

ولا أظن أن تحالف الأجداد Ata ittifakı بقيادة المرشح سنان أوغان سيقبل أن يعطي أصواته لتحالف الأمة، وذلك بسبب انطواء حزب الشعوب الديموقراطي الكردي HDP تحت مِظلّتهم؛ إلا أن يطردهم كمال كليشدار أوغلو من تحالفهم كما صرّح بذلك سنان أوغان بنفسه. أضف إلىٰ أن نسبة الربع من أصواته -سنان أوغان- البالغ عددها مليونان و٨٠٠ ألف جاءت من أصوات حزب البلد MP الذي انسحب مرشحهم الرئاسي مُحرّم إينجه كما أسلفنا بسبب قضية الصور، الذي اتّهَم بها أعداء الدولة من أتباع فتح الله غولن وأعضاء تنظيم العمال الكردستاني PKK (وهذا إيماءٌ لعلاقة تحالف الأمة بذلك) بفبركتها، فلربما اختار أعضاء حزب البلد التصويت لتحالف الجمهور كرهاً بفعلتهم. هذا وحسب.

من الله التوفيق، وعليه الاتكال، وذاته من وراء القصد.

تعليقات

  1. ظننت أن معلوماتي السياسية لا بأس بها لكن إتضح أني مازلت أجهل الكثير. كل الدعم والتقدير...
    (مجهول يكاد يجزم أنك لن تجهله)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١