الدهر والشعراء
لقد كان دهراً شماعةً للشاعراء؛ يلقون عليها مصائبهم وأحزانهم، وأوجاعهم وأسقامهم. فتراه يفتري على الدهر، ويتعلل به لهجران الحبيب، ولمفارقة الأهل، ولغربته عن الوطن. ويتهمه بما حلَّ فيه من نغص عيشٍ، وتعبٍ وكدٍ وحنق. فماذا قالت معاشر الشعراء؟
بداية مع فارس عبسٍ وشاعرها، ومقدامها، والمنافر عنها.. عنترة بن شداد. لا يخفىٰ علىٰ أحدنا ذل عيش، ونقم قبيلته وأقاربه عليه لسواده وعبوديته وهو ابن سيدهم.ولربما معه نتفهم عتبه على الدهر، وننصفه، فهو لم يختر لونه، ولكن بلوته كانت تلك:
أُعاتبُ دهراً لا يلينُ لعاتبِ وأطلبُ أمناً من صروف النوائب
وتوعدُني الأَيامُ وعداً تغرني وأعلمُ حقاً أنه وعدُ كاذبِ
خدمتُ أناساً واتخذتُ أقارباً لعوني ولكن أصبحوا كالعقاربِ
يُنادونني في السلم يا ابن زبيبةٍ وعند صدام الخيل يا ابن الأطايبِ
لربما كان بقوم عنترة قد وعوا كبر ما فعلوا، ولكان حريٌّ بهم أن يمتنعوا بعد إذ عن إيذاءهِ، ولكنهم أبوا كعادتهم، فرغم استحقارهم له وقتَ السِلم، واستنجادهم به وقد الشدة؛ إلا أننا نراهم يستنكفون عن مكافأته ولو بقليل من النعم:
أعاتبُ دهراً لا يلينُ لناصحِ وأخفي الجوى في القلب والدمعُ فاضحي
وقومي مع الأيامِ عونٌ على دمي وقد طلبوني بالقنا والصفائحِ
وقد أبعدوني عن حبيبٍ أُحبهُ فأصبحتُ في قفرٍ عن الإِنس نازحِ
وأيسرُ من كفي إذا ما مددتُه لنيلِ عطاءٍ مد عنقي لذابحِ
ومن عبسٍ إلى بكرٍ، إلى ذاك الشاعر الشاب، صاحب المعلقة على صغر سنه، الذي صدع بفلسفته بالحياة، لا يأبه بأي شيء بها، ولكن على ذلك؛ لم يخفى عتبه الوضح عليها، وما أسرفت الايام في تعاسته -ولو أننا لا نرى ذلك- حسب الشاعر! لربما كان يقصد حبه للحياة في عتبه على الدنيا، وكرهها لها إن تخلت عنه وسلمته للموت:
أرى العيشَ كنزاً ناقصاً كل ليلةٍ وما تنقُصِ الأيامُ والدهرُ ينفدِ
وها هو يقدم لنا النصح والإرشاد، فقد ذاق من الحياة مرارة الخزي والفقر:
ستبدي لك الأيامُ ما كُنت جاهلاً ويأتيك بالأخبارِ من لم تُزودِ
ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تبع له بتاتاً ولم تضرِب لهُ وقتَ موعِدِ
ومن بكرٍ إلى مزن، إلى شاعر لم يرث من أبيه ماله ومتاعه فقط؛ بل أعز ما ملكته العرب وتفاخرت به: الشعر. ذاك الشاعر هو كعب بن زُهير بن أبي سلمىٰ الذي بعد فتح مكة هام في الأرض على وجهه، وانطلق يجثو على ركبتيه بين القبائل يستجدي أمنهم وأمانهم من ذلك الرجل.. الذي طالما ما هجاه وشتمه، وشتم أصحابه. ثم عمّا قليلٍ، وإذا بخطابٍ يصله من أخيه الذي أسلم، يخبره به بأمانه الرسول ﷺ له، وقبوله منه الإعتذار إن أقبل متشفعاً. فيأتيه كعب قاطعاً تلك الفقار والبوادي، يستجدي عفو ذاك العظيم، ويطلب رحمته وشفقته، شاكياً له تقلب الزمن، فبعد الغنى فقر، وبعد العز ذل، وبعد السعادة شقاء، فيقف بين يديه معتذراً بقصيدة تزلزل أحشاء القلوب، وتخترق سويداء القلب محتلةً إياه، فيشكو:
يا ويحها خلةً لو أنها صدقت ما وعدت أو لو أن النصحَ مقبولُ
لكنها خلةٌ قد سيط من دمها فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
فما تدومُ على حالٍ تكونُ بها كما تلونُ في أثوابها الغولُ
ويكمل بعد ذلك، بنصحه بعد تجربةٍ مريرة، فيقول:
فلا يغُرنكَ ما منَّت وما وعدت إن الأماني والأحلامَ تضليلُ
وقد يقول قائل: لكنه كان يصف هجران حَبِّهِ له. أقول: ربما، وربما وصف الحياة، فإن مسحت اسم "سعاد" ووضعت "الحياة"؛ لاستقام في ذهنك نفس المعنىٰ.
وذاك الشاعر الذي نكلت به صروف الدهر حتى غدا أسيراً شريداً بعيداً عن موطنه وأهله؛ فما له غير الشعر يسلوا به، ولا معاتَبٍ إلا الدهر، أبو فراسٍ الحمداني أعني:
لمن أعاتب مالي أين يذهب بي قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهرٍ لا وفاء له كأنني جاهلٌ بالدهر والناسِ
لم يفعل الدهر به ابن خلدون ما فعلت بسابقيه؛ لكنها تذيق الرجل القليل من القليل، ولربما كان هذا كافياً ليقول:
على أي حال لليالي أعاتب وأي صروف للزمان أغالب
كفى حزنا إني على القرب نازح وإني على دعوى شهودي غائب
وأني على حكم الحوادث نازل. تسالمني طوراً وطوراً تحارب
ولا ندري ما حل بالشريف الرضي حتى دفعه إلى عتاب الدهر؛ غير معرفتنا بهموم البشر الإعتيادية. ومن أقرب إلينا من الحياة كي نعاتبها؟
أعاتبُ أيامي وَما الذئبُ واحدٌ وهنَّ الليالي البادياتُ العوائِدُ
وأهونُ شيءٍ في الزمانِ خُطوبهُ إذا لم يُعاونها العدوُّ المُعاندُ
وكيفَ تلذُّ العيش عينٌ ثقيلةٌ على الخلقِ أو قلبٌ على الدهرِ واجدُ
وأخيراً نرى صاحب الوزارتين، الأديب والعالم، والوزير والسياسي المحنك لسان الدين الخطيب يشكو من الدهر تارةً، ويشكو لسلطانه أبي الحسن منه نفسه تارةً أخرى، ومن الوشاة به والحساد، والناقمين على مكانته في الدولة، ويتحدث بمرارة وأسى لسيده عن نائباته.
أعاتبُ دهراً لا يُصيخُ إلى عتب وأسألهُ صفحاً ومالي من ذنبِ
وأعلنُ بالشكوى إلى غير راحمٍ فأشكو وقد عز العزاءُ إلى ربي
أَبَا حَسَنٍ مَا لِلزَّمَانِ يَنُوشُنِي كأنكَ لم تعلم بودي ولا حبي
ومن لي بأقوامٍ عليَّ تألبوا أسالمهم دهري ويسْعونَ في حربي
نعيبُ زمانَنا والعَيبُ فينا
ردحذفوما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزمانِ بغيرِ ذَنبٍ
وَلو نطقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
والصنعاني
مذ سمعوا مدحي لدهر أهله
ردحذفيستبدلون ذمه عن مدحه
قالوا فَلِمْ تمدح ما نذمه
فقلت قد غايرتكم في قبحه