عينٌ بلا بصيرة


 


قد علمَ كُلكم أو جُلكم الفرق الجليَّ الواضحِ بين البصر والبصيرة، ولا أحسبُ أنها تخفىٰ علىٰ أحدكم، فلطالما تغني العرب بعربيَّتهم ولسانهم وبلاغة لغتهم، وانتشرت تلك الفروق بين المفردات قليلة الاختلاف رسماً، كثيرة التباين معناً علىٰ مواقع التواصل الاجتماعي في يومنا هذا، والمنتديات سلفاً.

ومن لم يخبر معانيها، ولم يدرك بلاغتها؛ فالبصرُ شيءٌ تُدرِكه العين، أما البصيرة فالقلب مسكنها ومثواها. ولقد رأيت من لم يُبصر بعينه لكن بقلبه، ومن هو في عكس ذلك، "وكم من أعمىٰ أدرك ما لم يُدركهُ ذوو العيون!" وإن كلامي قد بدا من صدري كحسرةٍ علىٰ جيلٍ ضائعٍ أعاينه بنفسي في الشوارع والحارات، والمدارس والجامعات؛ وقد أبيتُ مهموماً على حال أمتنا هذه وحال شبابها وفتيانها. فالمرء منهم لا يأبه لمستقبله، فضلاً عن وطنه، ناهيك عن دينه وعقيدته!

قد هلك القوم أخي القارئ، فالواحد منهم مستغنٍ عن علمه مقابل حُفنة من المال الفاني، والآخر عن دراسته لقاء دقائق معدوداتٍ يقضيها مع ما يُسميه (حَبي). جهلٌ وتفاهةٌ، وقلة عقلٍ وفهمٍ، ونُقصانُ مروءةٍ وشهامة. ولقد كانت العرب قديماً يواري فيهم الرجل لقاءه مع حبِّهِ عن أعين الناس، أما الآن فقد انقطع الحياء من أفئدتهم. قد فنيت تلك الصفة كما غيرها من الحمائد من قلوب الناس. غير أن حديثنا ليس في الحياء؛ قد سبق وأن تحدثت عنه في مقالةٍ لم أنشرها إلى الآن في مدونتي - سأفعل لاحقاً إن شاء الله-. إنما مجلسنا هذا في تيه الفتىٰ عن طريقه وأهدافه، وانعدام الأماني، والرُّكونِ إلى الدَّعَةِ عن الجهدِ، والكسلِ عن النشاطِ، والعزيمةِ عن التراخي. فقد كان حريًّ بمن يُسمَّون بـ”طلاب الجامعات“ أن يكونوا أدرىٰ الناس بمصلحتهم؛ فهم ليسوا اطفالاً، تغير لهم أمهاتهم ألبستهم، ويطهين أطعمتهم، ويغسِلن ثيابهم، ويُعلمنهم ويُدرسنهم، ويحنن عليهم ويراقبنهم؛ قد غدوا كباراً، أصحاب مسؤولية ومفهومية. فبدلاً من أن يباتوا عالةً على أهلهم، وجب عليهم أن يسعَوا ويكِدُّوا ويجهدوا في تحصيل العلوم، ونيل المعارف، واكتساب الخبرات. وإنك إذا ما أبصرت الأسباب، وبانت لك النتائج وعلة الأفعال؛ فإنك ترىٰ ذلك الكم من المُلهيات، وترىٰ إقبال الشباب عليها!

لقد عرف تاريخنا الإسلامي والعربي نماذج كثيرةٍ، وأمثلةً فريدةً، وصوراً عديدةً صنعت مجداً خلَّده التاريخ في صفحاته وجلداته وأوراقه، وتحدَّث الناس عن بطولاتهم، ورُويت حكاياتهم في المقاهي والشوارع، ودُرِست في المدارس والجامعات.= على صغر أعمارِهم، وقلَّة خبراتهم، غير أن ذلك دأب القادة العظام؛ لا يأبهون لتلك الموانع، ولا يعطون بالاً لتلك العقبات. فالعمر ببركتهِ لا بكثرتهِ، وبتأثيرهِ لا بتخليدهِ. وإن سَنةً من عمر هؤلاء خيرٌ من ألفٍ عاشها آخر دون فائدةً تُرجىٰ، ولا نعمةٍ تحمد، ولا منقبةٍ تُذكر. ولقد عاش نوحٌ -عليه السلام- ألف سنة إلى خمسون عاماً، وعاش محمدٌ ﷺ ثلاثة وستون عاماً؛ فوصفهما الله بأولوا العزم من الرسل.. فرق سنواتٍ شاسعٍ والمحصلة واحدة. وعلى ذكر الشباب، فدونك خيرهم: عيسىٰ -عليه السلام-، ودعوته وجهاده في أرضٍ عمَّ فيها الكفر، وانتشر فيها الفساد، وتخلل في اركانها الظلم. فكيف صنع، وما لقي من جهدٍ وكدٍ وعناء في سبيل نشر الدعوة، وتبليغ الرسالة، والتبشير بالإسلام. وحسبك أنه بُعِث في بني إسرائيل؛ وهذا لوحده جُهدٌ وعنت، فكيف بمكابدة الدعوة نفسها! ثم إنك إن تقل: إن هذا نبي رسول فأين أنا منه؟!

فعلىٰ خطأ ما قلت، وجسامة وسوء ما تفوَّهت به؛ إلا أنني سأغضُّ الطرف عنه، وسأورد لك أمثلةً أخرىٰ؛ لعلك ترىٰ وتبصر ما غاب عنك، ويستمسك فيك نصحي. لو سألتك عن الهند، وما تصورك إياها؟ لقلت لي: هي تلك البلد العظيمة، شاسعة المساحةِ، عظيمة البنيانِ، ركيزة الأساسِ، كثيرة الناسِ. أوافقك الرأي، إذ هي كذلك حقاً، غير أنها لم تكن دائماً علىٰ هذه المساحة. فالهند كما نعلم لم تكن بحدودها الحالية فحسب؛ بل امتدت حتىٰ كانت دول: باكستان، بنجلاديش، بورما وسيرلانكا جزءاً لا يتجزأ من امبراطورية الهند العظمىٰ! هل تخيلت المساحة، والسعة العظيمة تلك؟ لربما ستصدم لو أخبرتك ان المسلمون قد فتحوها، وأن من فتحها لم يكن قائداً قد تجاوز الأربعين أو الخمسين أو حتى الستين، ولم يكن رجلاً قد أهلكته التجارب، وخاض الصعاب، وقضىٰ كل حياته أو جُلها في الحروب والمعارك؛ بل كان شاباً لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره! نعم، هو كذلك، لقد كان محمد بن القاسم الثقفي -رحمه الله-. هو ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك المبير، وبالمناسبة بالرغم من سيئات الحجاج التي لا تحصىٰ؛ هناك فضائلٌ وجمائلٌ له حري بنا ألا نغفل عنها= فتح الهند والسند مثالٌ على ذلك. لا يُخيل إليكم أنه ربما ولاه لقرابتهِ وصلته به؛ بل إنما لحكمتهِ وشجاعتهِ، ونباتهِ وفطنتهِ، ولقد رأىٰ فيه عقلاً وقيادةً أهَّلتهُ بذلك لتولي قيادة الجيش الذي أرسله الحجاج لفتح السند والهند.

وقبله وهو خير منه نجد أن رسول الله ﷺ قد أرسل جيشاً فيه خِيار الصحابة: كعمرَ وعثمانَ وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم أجمعين- على قيادته شابٌ في مقتبل عمره، هو: أسامه بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما-، حِب رسول الله ﷺ وابن حِبه، لك أن تتخيل أن شاباً يدرس في الصف الثالث الثانوي -بمقياسنا- علىٰ رأس جيشٍ فيه خِيار الأمة! فكما أسلفنا الأمر ليس بكم يعيش المرء في الحياة؛ بل بعقله وسعة تفكيرهِ. فلا تقل في نفسك ما أنا إلا طفلٌ او مراهقٌ أو شابٌ. ولا تُثبطنَّ من عزيمتك، بل ارفع من شأنك، ولا تستحقرها، واطمح إلى أعلىٰ عليين، وإلى سدة المراتب والمقامات. وذكِّر نفسك وحدثها أن: سأكون كمحمد الفاتح؛ الذي فتح القسطنطينية وهو لم يتجاوز الواحدة والعشرين من عمره، أو كسليمان القانوني؛ الذي فتح بلغراد وهو ابن الثالثة والعشرين، أو كعبد الرحمن الداخل؛ الذي دخل الاندلس ووحَّدها تحت رايته وهو ابن عشرين، أو كحفيده عبد الرحمن الناصر؛ الذي قمع الفتن وأخمد الثورات وركَّع القشاتلة وهو ابن خمسةٍ وعشرين، والقائمة تطول..


لم أُرِد بهذا إلا النصيحة، فقد رأيتُ وخبِرتُ بعض أقراني، وسألتهم عن أهدافهم وطموحاتهم= فأحسنهم من يطمح إلىٰ الزواج والوظيفة! أهذا هدفٌ بالله عليكم، كنت قد ظننت أنها وسيلةٌ، وإذ بها غاية الأمنية! أيكون هدف المرء وطموحهِ الأكل والشرب والتكاثر؟ عجباً لهذا الجيل! وتخيل.. رأيت من لا يعرف ماذا يريد، ومن دخل الجامعة وهو لا يدري لمَ دخلها، ومن اختار تخصصاً ولا يأبه لشيء منه! غدا الشاب عالةً على أهله ووطنه ودينه؛ فبدلاً من الجِدِّ ركن إلىٰ الهزلِ، ومن الهمَّةِ إلىٰ الكسل، ومن التبكير الىٰ السهر، ومن الشده إلىٰ الرخاء. وقد تقوَّىٰ البعض علىٰ مجابهة الصعاب بالكأس والدخان، ومشاهدة الأفلام، ومحادثة الغانيات! حتى وصل بي الأمر أنني أخجلُ من فِعالِ البعض أكثر مما يخجلوا هم بأنفسهم من أنفسهم. وإنني لأتخيل شعور رسول الله ﷺ وهو ينظر إلى حال أمتهِ، وكيف قال عنَّا: "أحبابي" ونادى بأعلىٰ صوته: "يا رب.. أُمَّتي أُمَّتي".. إنك لا تدري يا حبيبَ الله -بأبي أنت وأمي- ماذا أحدثنا بعدكَ! وإلىٰ أيِّ حالٍ صِرنا، وأيُّ طريقٍ سلكنا، وأيُّ جُهدٍ بذلنا! ولا حول لا قوة إلا باللهِ العليِّ العظيم.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١